اليوم التالي للحرب هو الشغل الشاغل لجميع الدوائر السياسية في إسرائيل وحلفائها الغربيين، والكثير من الدول العربية، وهناك سيناريوهات عدة متداولة في هذا الشأن، وجميعها يتمحور حول استبعاد أي دور للحركات والتنظيمات غير الشرعية، في إدارة القطاع، فيما ترى السلطة الفلسطينية أن مستقبل القطاع يحدده الشعب الفلسطيني وليس إسرائيل.
المؤشرات تقول أن هناك اختلاف كبير في وجهات النظر بين إسرائيل وبقية الأطراف المعنية بمصير القطاع، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ودول عربية معنية سواء بحكم ارتباطها بالقطاع كمصر أو بحكم مسؤوليتها وكونها من القوى الاقليمية الفاعلة التي ينبغي أن يكون لها دور مؤثر في هذا الملف العربي مثل الإمارات والسعودية والأردن. وبلاشك أنه خلاف بديهي في مثل هذا الظروف لأن لكل طرف أولوياته أو ورؤيته الاستراتيجية سواء للأمن والاستقرار الاقليمي بالنسبة للأطراف العربية، أو لأمن إسرائيل كما تراه حكومة نتيناهو، التي تمتلك بحد ذاتها وجهات نظر شديدة التفاوت والتطرف أحياناً، تراوح بين البقاء في القطاع والعودة للسيطرة عليه أمنياً على الأقل في ظل وجود حكومة تكنوقراط وإدارة عربية مشتركة للشؤون المدنية، وبين دعوات مستهجنة لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وهي الدعوات التي تتسم بقدر هائل من التطرف ولا نعتقد أنها تخدم مصالح الشعب الإسرائيلي على المديين القريب والبعيد، ناهيك عن صعوبة تحققها وتأثيرها السلبي البالغ عن علاقات إسرائيل مع الدول العربية الساعية لترسيخ حلول قائمة على التعايش و الاعتدال والأمن والاستقرار.
لاشك أن قدرة إسرائيل على بناء مستقبلها ومواصلة مسيرة السلام والتنمية والعودة تدريجياً إلى ماقبل السابع من أكتوبر يبدو إلى حد كبير مرهوناً بقدرتها على الوقوف على أرضية مشتركة مع عواصم الاعتدال العربي، وبحيث لا تضع هذه العواصم في حرج جراء إلتزام هذه الدول بمسؤولياتها التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني، والكل يعرف حجم التعاطف الذي تحظى به معاناة المدنيين الفلسطينيين الأبرياء من الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي فإن رسم سيناريو اليوم التالي للحرب لا ينفك عن أخذ وجهات نظر أطراف عربية محورية مثل السعودية والإمارات ومصر والأردن بالاعتبار، حيث ينبغي على أي حكومة إسرائيلية أن الجميع في هذه الأزمة في مركب واحد، وأن أمن إسرائيل هو جزء من أمن المنطقة بأكملها، وهو أمر لن يتحقق سوى بمراعاة وجهات نظر وتصورات الأطراف العربية لتحقيق الأمن والاستقرار، كي يمكن لهذه الأطراف أن تشارك بفاعلية في تجاوز هذه المرحلة بأسرع وقت ممكن وبأقصى درجات الفاعلية والنجاح الضامنة ليس فقط للاستقرار ولكن أيضاً لاستئصال الأيديولوجيات المتطرفة واقناع سكان قطاع غزة بحتمية التخلي عن هذه الأفكار ورفض التعاطف معها لاحقاً.
الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها أن جزءاً كبيراً من بناء مستقبل قطاع غزة والتوصل إلى مخارج آمنة تضمن الأمن والاستقرار في القطاع وخارجه، يقوم على دور السلطة الفلسطينية، حيث لا ينبغي أن تكتفي باللاءات والرفض والحكم على التصورات المطروحة من هذا الطرف أو ذاك بالفشل والنجاح، وكذلك من الضروري التخلي عن الشعارات والمزايدات والعناوين غير الواقعية للحل، وهذا يتطلب استيعاب معطيات المرحلة الراهنة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بطريقة تستجيب لاحتياجات الشعب الفلسطيني من جهة، ومخرجات البيئة الاقليمية والدولية الراهنة من جهة ثانية، وحال الفصائل والتنظيمات الفلسطينية وما تسببت فيه الانقسامات وآلت إليه الأوضاع من جهة ثالثة، وهذا كله يتطلب مكاشفة تاريخية للذات وإجراء نقاشات داخلية معمقة واتخاذ قرارات تعلى المصالح العليا للشعب الفلسطيني الذي يعاني سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ويدفع ثمناً باهظاً للفوضى والانقسامات والصراعات الحركية والحزبية والشخصية أيضاً، وهذا كله ليس مطلباً مكملاً للتوصل إلى رؤية آمنة لليوم التالي للحرب، ولكنه ركيزة للوصول إلى هذه النقطة، فلا مجال للمزايدات على حساب كل هذه الدماء التي سالت بسبب قرارات عشوائية وتصرفات هوجاء تسببت في وضع مصير القضية الفلسطينية بأكملها على المحك، وبدرجة غير مسبوقة طويلة العقود والسنوات الماضية.
الواقع الآن، أنه لا خطة واضحة لدى أي طرف حول مستقبل قطاع غزة، وهذا الأمر بحد ذاته يمكن أن يطيل أمد الحرب، ونعتقد أنه كلما عجّل الجميع ببناء توافقات وتفاهمات حول الخطوة التالية فإن مخرجات ذلك قد تكون قاطرة قوية للدفع باتجاه انهاء العمليات العسكرية والتوجه نحو السياسة، واستطلاعات الرأي التي تجرى في الأراضي الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، تشير إلى توجهات لافتة لجهة دعم حركة "حماس"، وقناعتي أن الأمر لا يرتبط بتأييد أيديولوجية الحركة بقدر ما يعكس تعاطفاً وقتياً والأهم هو رفض السلطة وسياساتها وقياداتها، ومن يشكك في ذلك عليه قراءة نتائج استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات فلسطينية بدقة وتأن لأن فيها من المؤشرات ما يغني عن الكثير من التحليل والنقاش والجدال، وجميعها تشير إلى أن التغيير أمر لا ينبغي غض الطرف عنه بأي حال من الأحوال، فقد حانت لحظة الحقيقة وإعلاء المصالح العليا والاستماع للحقائق، وأولها أن هناك حاجة ملحة لقيادات فلسطينية جديدة يمكن أن يلتف حولها الشعب الفلسطيني، وأن الحاجة لهذه الدماء الجديدة لا يبقى مطلباً أساسياً ومحوراً لأي تسوية سياسية بغض النظر عن شكلها وتفاصيلها، حيث ان بقاء الأمر بيد الفلسطينيين أنفسهم لا مفر منه.