لا اعتقد أن هناك من يستطيع رسم سيناريو تخيلي دقيق لمستقبل قطاع غزة في ظل الظروف التي آلت إليها الأوضاع في القطاع على المستويات كافة، والمعضلة هنا لا تقتصر على الجانب الإداري والأمني، أي لا تتعلق فقط بالإجابة على السؤال الذي يتردد كثيراً هذه الفترة وهو: من يدير غزة في مرحلة مابعد "حماس"؟ بل تطال كافة الجوانب والأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستراتيجية.
الحقيقة أن مشاهد الدمار الذي يعم قطاع غزة تطرح تساؤلات عدة بعيدة تماماً عما تروج له "حماس" ومؤيديها ومموليها بشأن من خضع لمن في اتفاق الهدنة الانسانية، فالمسألة لها أبعاد معقدة للغاية، وقرار إسرائيل قبول الاتفاق لم يكن مرتبطاً بالخسائر البشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي كما يردد هؤلاء بل له علاقة وثيقة بالضغوط الدولية لتخفيف حدة المعاناة الانسانية في القطاع من ناحية، وضغوط أسر الرهائن الإسرائيليين لدى "حماس" من ناحية ثانية.
مع الأخذ بالاعتبار أن الحرب ستتواصل بعد الهدنة بحسب تصريحات إسرائيلية، فإن الواقع الراهن يكشف بوضوح عن مدن لا تصلح للعيش وبنى تحتية مدمرة تماماً، فضلاً عن وجود نحو مليون ونصف المليون بلا مأوى يواجهون تحديات البقاء على قيد الحياة، في ظل انعدام سبل الحياة بكافة أشكالها. وبالتالي فإن مسألة إعادة الإعمار ليست بالسهولة التي تمت بها في مرات سابقة، ومن الصعب بناء توقعات حول توافر التمويل الضخم اللازم لذلك في حال تمت تهيئة البيئة أمنياً وسياسياً للبدء في خطط كهذه.
هناك معضلة كبرى تتعلق بإدارة شؤون القطاع في مرحلة مابعد "حماس" وهناك تعقيدات شديدة تحطيط بكل التصورات الاستراتيجية المرتبطة بهذا الأمر، فلا السلطة الفلسطينية بامكانها ضم القطاع إلى حكمها لاعتبارات داخلية عديدة، ناهيك عن تحفظات الحكومة الإسرائيلية على مواقف السلطة وطبيعة إدارتها لأراضي الضفة الغربية، ناهيك عن أن إسرائيل نفسها ليس بامكانها البقاء في القطاع لفترة طويلة في ظل هذه الواقع الذي يعيشه القطاع، كما أن الدول العربية والخليجية لن تورط نفسها في أي سيناريو يتعلق بإدارة "مستنقع" غزة ولو لفترة انتقالية، كما أن فكرة الإدارة الدولية المشتركة تبدو غير واقعية ومن الصعب تحقيقها فعلياً، ولم يتحمس لها حتى الآن سوى تركيا التي أعربت عن امكانية مشاركتها في هذا الحل.
هناك إشكالية صعبة أيضاً تتعلق بنزع السلاح في قطاع غزة، كما تريد إسرائيل وهي مسألة تتطلب تمشيطاً دقيقاً للقطاع، أرضاً وسكاناً، ما يتطلب وقتاً كبيراً وظروف يصعب توافرها، لاسيما أن إسرائيل ترى في الظروف الراهنة فرصة ثمينة للتخلص نهائياً من حركة "حماس"، وتهديداتها مهما كانت التكلفة البشرية والمادية لذلك، وهو ما يعني صعوبة بناء توقع للمدى الزمني للصراع العسكري الدائر في غزة.
بلاشك أن محصلة الحساب النهائية لما حدث منذ السابع من أكتوبر الماضي تشير إلى أن خسائر الفلسطينيين، وليس "حماس"، أكبر من مكاسبهم ـ إن وجدت ـ بمراحل، ودعنا من فكرة كسب معركة الرأي العام العالمي أو إعادة طرح القضية على أجندة النقاش العالمي، وغير ذلك من تصورات لا مكان ولا تأثير لها في الواقع الفعلي للعلاقات الدولية كما رآها الجميع في الآونة الأخيرة.
خسر الشعب الفلسطيني نحو 14 ألف من أبنائه، بخلاف المصابين والجرحي، بجانب تشريد نحو مليون ونصف المليون جراء تدمير أكثر من نصف مباني القطاع وبنيته التحتية جراء القصف الإسرائيلي بكل ما يعنيه ذلك من تعميق لمأساة الشعب الفلسطيني، وفقدان غزة كأرض فلسطينية وقعت مجدداً تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي.
كل ماسبق قد لا يكون الكلفة النهائية للحرب في غزة، فهناك أمد زمني غير معلوم وجولة أخرى يتوقع أن تبدأ بعد نهاية أيام الهدنة الانسانية، وحيث يتوقع أن يكون القصف الإسرائيلي أكثر شراسة وتوسعاً بالنظر إلى رغبة حكومة نتنياهو في تحقيق أهدافها في أقصر وقت ممكن كي لا تتعرض مجدداً لضغوط دولية لانهاء الحرب.
مرحلة ما بعد حرب غزة تبقى السؤال الأصعب في تاريخ القضية الفلسطينية، وهي مرحلة تتسم بالغموض والضبابية الشديدة، ولاسيما فيما يتعلق بمصير سكان غزة، وسبل عودتهم إلى ديارهم ومتى، وبين كل هذه الأسئلة يغيب دور الميلشيات والتنظيمات التي تشعل الحروب من دون أن تفكر في عواقبها وتداعياتها وكيفية انهائها وبأي ثمن بشري ومادي، حيث لا يمكن لأي عاقل الادعاء بأن ما حدث هو بمنزلة إحياء للقضية الفلسطينية التي كانت على وشك الدخول في طي النسيان كما يدعي البعض، فالواقع أنها الآن في مواجهة مصير غامض للغاية، والنقاش بات يدور حول مصير جزء من الأراضي الفلسطينية (غزة) وليس الدفع باتجاه اقامة دولة فلسطينية مستقلة. صحيح أن هناك دعوات ومطالبات عربية ودولية بشأن تنفيذ حل الدولتين وبناء أفق واضح للسلام، ولكن الأمر يحتاج إلى وقت طويل في ضوء البيئة الاستراتيجية الدولية الراهنة التي تتسم بقدر هائل من الانقسام والخلافات والربط بين الملفات وبعضها البعض، وحيث لا توجد مساحة توافق دولي يمكن لها أن تدفع باتجاه اقامة دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل، وحيث توجد قوى إقليمية لا تريد لهذا السيناريو أن يرى النور من دون أن تستكمل تحقيق أهدافها الاستراتيجية، التي توظف فيها القضية والميلشيات الفلسطينية توظيفاً محوريا للغاية.