في السابق، اعتدنا على أنه في كل تصعيد داخل الأراضي الفلسطينية تقوم بعض الأقلام والفضائيات العربية المأجورة بتوجيه السباب وكيل الشتائم لبعض دول مجلس التعاون، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ومؤخراً أشعلت حركة "حماس" الوضع في غزة ومجمل الأراضي الفلسطيني بشن هجوم عسكري غير مسبوق ضد إسرائيل، ولكن البعض ممن اعتادوا خلط الأوراق وتصفية الحسابات في مثل هذه الأجواء اتجهوا مباشرة إلى إنتقاد مواقف وسياسات دول عربية وخليجية عدة، وفي مقدمتها المملكة.
الشواهد تقول أن الموقف السعودي في أزمة غزة يتسم بقدر عال من الرشادة والعقلانية والثبات والقوة والحسم، ويعبر عن الإرث التاريخي للسياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، حيث كانت ولا تزال القضية الفلسطينية محوراً مركزياً من محاور هذه السياسة الداعمة بشدة للقضية والشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة في إطار حل الدولتين الذي يمثل جوهر المبادرة العربية التي طرحتها المملكة في قمة بيروت عام 2002.
وقد رأينا جميعاً كيف شدد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على "ضرورة رفع الحصار عن غزة ووقف التصعيد وعدم إنفلات الأوضاع بما يؤثر على أمن واستقرار المنطقة"، وأكد خلال الاتصال الهاتفي الذي تلقاه سموه من الرئيس الأمريكي جو بايدن على "ضرورة العمل بشكل فوري لبحث سبل وقف العمليات العسكرية التي راح ضحيتها الأبرياء، ورفض استهداف المدنيين بأي شكل أو استهداف البنى التحتية والمصالح الحيوية التي تمس حياتهم اليومية أو التهجير القسري"، كما يجب ان ننتبه إلى أهمية كلمة الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية أمام مجلس الأمن الدولي، والتي قال فيها أن غير قادر على القيام بدوره والوصول إلى قرار لحل الأزمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقال "اليوم نرى المجلس عاجزا عن القيام بالدور المناط به وتأخره في التوصل إلى قرار يعالج هذه الأزمة".
وقد جاء الموقف السعودي الحاسم بشأن ضرورة حماية المدنيين وعدم استهداف الأحياء السكنية الفلسطينية من جانب الجيش الإسرائيلي، كأول موقف عربي ينبه إلى هذه النقطة ويحذر من خطورتها وتداعياتها الكارثية، حيث دعت المملكة العربية السعودية "للوقف الفوري للتصعيد بين الجانبين، وحماية المدنيين، وضبط النفس"، وأضاف البيان الصادر عن الخارجية السعودية: "تذكّر المملكة بتحذيراتها المتكررة من مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته"، كما تحركت الدبلوماسية السعودية بشكل مكثف على الصعيدين الاقليمي والدولي من أجل التوصل إلى حلول للأزمة، وركزت في ذلك بشكل واضح على أهمية حماية المدنيين، والوقف الفوري للتصعيد وضرورة احترام القانون الدولي الانساني.
بعض التعليقات الإعلامية ترى أن أحد أهداف هجمات "حماس" كان يتمثل في تقويض خطط تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ولكن من تابع جيداً تطورات الموقف السعودي تجاه مسألة التطبيع يدرك جيداً أن الرياض قد تمسكت بموقف ثابت يقوم على ضرورة أن يشمل أي اتفاق معالجة قضايا الفلسطينيين، وهنا نشير إلى قول سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في تصريحاته لشبكة "فوكس نيوز" الأمريكية: "نأمل أن تؤدي (مباحثات الاتفاق) لنتيجة تجعل الحياة أسهل للفلسطينيين وتسمح لإسرائيل بأن تلعب دورا في الشرق الأوسط".
القضية الفلسطينية إذن كانت ولا تزال محوراً أساسياً في بناء سياسة المملكة العربية السعودية حيال العلاقات مع إسرائيل، وليس هناك توقعات تخالف هذا الأمر لسبب بسيط ولكنه مهم للغاية هو أن المملكة دولة ذات ثقل استراتيجي اقليمي ودولي كبير، ولها سمعتها ومكانتها الراسخة في العالمين العربي والإسلامي ويصعب عليها أن تقفز على إرثها التاريخي وقيمها ومبادئها لتذهب في اتجاه مغاير، ولكن هذا الثقل وتلك المكانة يفرضان على الرياض كذلك أن تتحرك بفاعلية وجدية بعيداً عن الضجيج الإعلامي، وكذلك هي تفعل في كل تحركاتها حتى تلك التي تخصها نفسها، وكلنا يتذكر كيف مضت المملكة في خطوات استئناف العلاقات والمصالحة مع إيران بمعزل تام عن الصخب الإعلامي.
السياسة الخارجية السعودية تعبر عن التزام تاريخي ثابت للمملكة حيال حقوق الشعب الفلسطيني، وتسعى إلى حلحلة حقيقة للقضية والوصول إلى تسوية سياسية نهائية لها، ولذلك جاء موقفها تجاه الأحداث الراهنة متماهياً مع هذا الإرث التقليدي السعودي، فالأمور بالأخيرة لا تقاس بحج الضجيج الإعلامي بل تقاس بحجم فاعلية التحركات وتأثير المواقف والسياسات.
بلاشك أن مواقف الدول تجاه الأحداث والأزمات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحجم هذه الدول ومكانتها وقدرتها على التأثير في محيطها الإقليمي وعلى الصعيد الدولي، ولهذا فإن الدول المؤثرة تتحرك دبلوماسياً وسياسياً بشكل يناسب هذا الثقل وتلك المكانة وتختلف في ذلك عن تحركات أي طرف آخر قد لا يمتلك نفس التأثير، لذلك فإن الدبلوماسية السعودية التي تعمل دائماً في صمت وتمضي في معالجة الملفات والقضايا بشكل هادىء وفاعل، تدرك جيداً أهمية الإسراع بانهاء التصعيد في غزة، وتعمل جدياً بالتعاون والتنسيق مع القوى الاقليمية والدولية من أجل تحقيق هذا الهدف، ولا تلقي بالاً للمقارنات ومحاولات التشويش والاستفزاز.