من يوقف الكارثة التي خُطط لها في طهران وتورطت فيها تنظيمات فلسطينية متطرفة تابعة لها؟ وهل يترك الجميع أنفسهم لهذا السيناريو الكارثي الذي تقاد إليه منطقة الشرق الأوسط؟ الغليان والغضب يعم إسرائيل والشعوب المنطقة العربية والإسلامية ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، وعلينا أن ننتبه كذلك كذلك إلى ماوراء التصريحات الإيرانية التي تهدد بتدخل جميع "محور المقاومة" في الحرب الدائرة في غزة، فالأمر يبدو وكأنه محاولة لاستباق حدث استراتيجي إقليمي جلل، لاسيما أن هناك تقارير إعلامية تتحدث عن تقييد أمريكي لوصول إيران إلى ألـ6 مليارات دولار ـ الموجودة في قطر ضمن حسابات مقيدة ـ وتفيد بأن هذه الحسابات قد تم تعليقها بعد هجوم "حماس" الدموي على إسرائيل.
لو صحت الخطوة الأمريكية بتقييد الوصول إلى الأموال الإيرانية المفرج عنها ضمن صفقة تبادل السجناء الأخيرة التي أفرجت عن خمسة أمريكيين إيرانيين محتجزين لدى طهران، فإننا سنكون أمام معطيات جديدة في الأزمات المعقدة إقليمياً، حيث يسعى كل طرف لفرض شروطه ورسم قواعد اللعبة في النظام الشرق أوسطي الجديد وفقاً لأهدافه ومصالحه الاستراتيجية.
المؤكد أن إيران لن ترضى بتهميشها وعزلتها في إطار نظام إقليمي يسود فيه السلام والتعاون بين إسرائيل وجيرانها العرب، ولن ترضى كذلك بأن يتقارب جيرانها من دول مجلس التعاون مع إسرائيل في إطار توسع محتمل لاتفاقات السلام بحيث تشمل المملكة العربية السعودية، الدولة الأكثر تأثيراً خليجياً وعربياً في الوقت الراهن، ولو اضفنا إلى ذلك استشعار النظام الإيراني هشاشة الموقف الإسرائيلي داخلياً قبل هجوم "حماس" الدموي بسبب الانقسامات والخلافات السياسية، وتآكل الدور والنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وعالمياً بموازاة صعود الدورين الصيني والروسي، فإن لنا أن نتوقع أن ينعكس ذلك كله على منطقتنا من خلال أحداث غزة التي تبدو بصمات إيران عليها واضحة للغاية.
هل تتجه إسرائيل وحكومتها الحالية على حصر الرد في غزة؟ وهل تكتفي إيران بالرسالة التي وجهتها عبر التنظيمات الفلسطينية التابعة لها ؟ كل ذلك مرهون بما يفكر فيه كل طرف من الطرفين، وبالأخص الإسرائيلي الذي وجد نفسه وقد تورط في حرب بالوكالة مع إيران، حيث لا مجال للتراجع عن ترميم صورة جيش إسرائيل وسمعته كقوة إقليمية عسكرية، وعن استعادة ثقة شعب إسرائيل بجيشه، الذي يواجه اختبار ثقة صعب لا خيارات فيه سوى عبور هذه الأزمة وتجاوز خسائرها الاستراتيجية.
في مجمل الأحوال فإن الشرق الأوسط يقف على عتبات مرحلة تاريخية جديدة ولن يكون مابعد هجوم "حماس" الدموي على إسرائيل كما كان قبلها، فإسرائيل لن تواصل على الأرجح العيش وسط هذا الحصار الجغرافي من وكلاء إيران وأذرعها الاقليمية التي يلوح بها النظام الإيراني كلما لاحت فرصة لذلك، والعرب لم يعد لديهم هامش مناورة كبيرة للتحرك سياسياً ودبلوماسياً سواء تجاه الأطراف الفلسطينية أو غيرها، وسقطت أوراق اللعبة بيد الطرف الإيراني الذي بات يتحرك في الأزمة وكأنه اللاعب الأساسي أو الرئيسي، وهو لا يستهدف سوى حشد وتجييش مشاعر الشعوب العربية والإسلامية ضد إسرائيل أولاً وضد أنظمتها ثانياً، وهذا كله يخلق حالة عميقة من عدم الاستقرار التي لن تقتصر تداعياتها على الشرق الأوسط أو تنحصر في النطاق الجغرافي لغزة، بل تشمل العالم أجمع بحكم التجارب السابقة التي تعلم الجميع كيف وظفت تنظيمات الارهاب والتطرف أحداثاً مماثلة كغطاء لارتكاب جرائمها الدنيئة بزعم الدفاع عن الشعب الفلسطيني.
أخطأت "حماس" خطأ استراتيجياً مدمراً حين صدقت وعود قادة الحرس الثوري الإيراني بأنهم سيقفون إلى جانبهم في مواجهة إسرائيل، وأنهم سيفتحون جبهة ثانية من الشمال، وهذا مايفسر تصريحات قادة الحركة فور الهجوم على إسرائيل من أن هذه المعركة سوف تمتد من فلسطين الي الخارج، كما أن كشف وزير الخارجية الإيراني قد كشف جانباً من السيناريو المرسوم بتصريحاته في بيروت التي أشار فيها إلى احتمالية فتح هذه الجبهة، ويبدو أن تحركاته في العراق ولبنان ليست بمنأى عن تدارس امكانية تنفيذ الخطوة الثانية من السيناريو، ولكن أي متخصص يدرك تماماً أن النظام الإيراني لن يتبني أي خطوة أخرى ما لم تتوافق مع مصالحه ومن ضمنها تفادي حدوث أي حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة الداعمة لها بقوة لا لبس فيها، وبالتالي يصعب التكهن بأن طهران ستقدم على أي خطوة أخرى لتنفيذ وعودها لـ"حماس" في الوقت الراهن على الأقل،
المخطط الإيراني هو مخطط انتقامي بامتياز، وهو ليس موجهاً ضد إسرائيل فقط، بل يشمل كذلك إدارة بايدن، التي يمكن القول بأن التصعيد الحالي في غزة يضع مستقبلها في مهب الريح، حيث باتت هذه الإدارة غارقة في أزمتين، إحداهما في أوكرانيا، والثانية في الشرق الأوسط، لذلك فإنها تقدم الدعم العسكري والسياسي اللامحدود لإسرائيل، لإدراكها أن هذه الأزمة قد تكون فارقة في تحديد فرص حصول الرئيس بايدن على ولاية رئاسية ثانية، ليس لأن المسألة تطال إسرائيل وأمن شعبها فقط، ولكن أيضاً لأن إشتعال الوضع في الشرق الأوسط له تداعيات كبرى على أسعار الطاقة والأمن والاستقرار العالميين، بما يؤثر بالتبعية في الاقتصاد الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة والعالم.
لا أحد يعرف ما يفكر فيه الجانب الإسرائيلي لاستعادة الثقة والرد على هجوم "حماس"، ولا أحد كذلك يعرف الرد المحتمل من جانب مخططي سيناريو الفوضى الذي تم تنفيذ خطواته الأولى بدقة شديدة من جانب حركة "حماس"، وبالتالي علينا، كمراقبين، أن نتوقع حدوث المزيد من التصعيد العسكري، الذي قد يدفع المنطقة بأكملها إلى حالة غير مسبوقة من الفوضى والاضطرابات.