لاشك أن إعلان المملكة العربية السعودية اعتزامها بناء أو محطة للطاقة النووية يأتي في سياق خطط التنمية السعودية الطموحة، ولاسيما رؤية 2030، التي توفر للمملكة العربية السعودية مستقبلاً واعداً، وهو أيضاً أمر يأتي في سياق خطط التنمية المستدامة التي سبق أن أعلنتها المملكة منذ سنوات مضت، حيث كشفت الرياض عن سعيها للاستفادة من الطاقة النووية السلمية ضمن مزيج الطاقة الوطني وبما يتماشى مع احتياجات التنمية المستدامة وخطط التطوير التي تحتاج موارد طاقة متزايدة.
هناك استراتيجيات سعودية تستهدف توليد 50% من احتياجات المملكة العربية السعودية من الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة بحلول عام 2030، حيث انضمت المملكة للتعهد العالمي بالمساهمة في خفض الانبعاثات العالمية لغاز الميثان بنسبة 30% بحلول عام 2030، كجزء من التزامها بالوصول إلى مستقبل أنظف للبشرية؛ وهناك مبادرة سعودية خضراء لتقليل الانبعاثات الكربونية لا تقتصر روافدها على الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة، بل تنطلق من رغبة قوية في الوصول إلى تحقيق الأهداف المناخية وارساء مستقبل مستدام بالوصول إلى الحياد الكربوني الصفري (صفر بالمائة انبعاثات كربونية) في عام 2060، وقد أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من قبل أن بلاده ستستثمر أكثر من مائة وثمانين مليار دولار لتحقيق أهدافها على هذا الصعيد، فضلا عن مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في مدينة نيوم الضخمة في شمال غرب المملكة، الذي تبلغ استثماراته نحو 500 مليار دولار.
في ضوء ماسبق وغيره، موقف المملكة بشأن بناء محطات طاقة نووية يبدو منطقياً تماماً في ظل امتلاكها كميات كبيرة من مخزونات اليورانيوم الخام، ومن ثم فهي تسعى للاستفادة من مواردها الطبيعية شأنها شأن أي دولة أخرى وشانه شأن أي مورد طبيعي آخر، فضلاً عن أنها بحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة والحد من الإعتماد على الموارد الأحفورية وخفض معدلات التلوث والوفاء بالمعدلات المعلنة رسمياً في هذا الشأن، وهو أمر يتماشى مع الخطط العالمية المعلنة بشأن معالجة التغير المناخي.
المملكة العربية السعودية دولة مسؤولة دولياً وتحظى بقدر عال من المصداقية والالتزام والموثوقية في علاقاتها الدولية، وما تتضمنه بعض التقارير الاعلامية الغربية بشأن اثارة الجدل حول عملية تخصيب اليورانيوم في المملكة، واحتمالية وجود منشآت نووية غير معلن عنها هو من الأمور التي اعتاد الغربي ترديدها من دون دلائل أو براهين، لاسيما أن المملكة العربية السعودية قد اتجهت في الآونة الأخيرة إلى تنويع خيارات تحركها استراتيجياً واتجهت إلى تنويع شبكة تحالفاتها الدولية وتعزيز علاقاتها مع الصين والانضمام إلى تكتل "بريكس"، ولكن هذا كله يحدث من دون أن تتأثر علاقات الشراكة القوية القائمة بين الرياض وواشنطن، بل إن هناك مساع لإعادة "هندسة" هذه الشراكة وإعادة بنائها وفق قواعد وأسس وضوابط جديدة تضمن للشريكين حقوقهما وتحدد التزاماتهما وفقاً للتغيرات الحاصلة على الصعيد الجيواستراتيجي.
فكرة الربط الذي تقوم به بعض التقارير الإعلامية الغربية بين التوجه السعودي لانشاء محطات نووية، وبين تصريح الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في حديثه مع شبكة "فوكس نيوز" الشهر الماضي، والذي قال فيه إنه إذا قامت إيران بتطوير سلاح نووي "سيتعين علينا أن نحصل على سلاح نووي"، هو موقف استراتيجي مبدئي وبديهي، ولا علاقة له بامتلاك محطات لتوليد الطاقة النووية من عدمه لأن عدم وجود هذه المحطات السلمية لن يحول دون التوجه نحو ترجمة هذا الموقف المبدئي السعودي على أرض الواقع كونه يرتبط ارتباطًا وثيقاً بالأمن الوطني السعودي. صحيح أن وجود محطات نووية مدنية توفر بعض الجهد والتخطيط بحكم وجود المعرفة والقدرة على تخصيب اليورانيوم بنسب منخفضة، ولكن قضية الانتشار النووي ظلت تاريخياً ودوماً قضية التزام ومسؤولية دولية وليست قضية فنية تتعلق بوجود محطات تخصيب أم لا، لأن محطات توليد الطاقة النووية السلمية تتواجد في الكثير من دول العالم، ومنها دول تحظر امتلاك سلاح نووي من الناحية الدستورية.
بلاشك أن الكثير من الدوائر الغربية لا تستطيع التعايش مع فكرة استقلالية قرار السياسة الخارجية السعودية على وجه التحديد، وهذه هي المعضلة الأهم في هذا الملف، فحينما يثور نقاش عن تلوث البيئة والتغير المناخي نجد أن اسم الدول المنتجة للنفط وفي مقدمتها السعودية والإمارات مطروحاً بقوة كأحد الأطراف التي تستفيد ارتفاع أسعار النفط وتطالب تحمل جزءاً كبيراً من فاتورة التصدي لتداعيات التغير المناخي الذي تسببت فيه الدول الصناعية الكبرى وحققت ثروات ضخمة من أنشطتها الاقتصادية والصناعية التي أنتجت هذا الكم من غازات الدفيئة، ولكن عندما يتجه أحد كبار منتجي ومصدري النفط لطاقة بديلة تمتلكها الكثير من دول العالم وتعلن للجميع أنها تسعى فقط لتحقيق اكتفاء ذاتي في الوقود النووي اللازم لتشغيل المحطات المولدة للطاقة، وأنها لا تعبىء مطلقاً بتحويل التكنولوجيا النووية المدنية إلى الاستخدام العسكري، يتم اثارة اللغط حول هذا الهدف الذي تكفله القوانين والتشريعات الدولية الناظمة لامتلاك الطاقة النووية لاسيما أن الرياض أعلنت صراحة عزمها تطوير الاستخدامات السلمية للطاقة النووية بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأنها ستخضع برامجها طوعياً لرقابة الوكالة.
بحسبة بسيطة فإن توليد الطاقة الكهربائية نووياً سيقلص نسبة الاعتماد على الطاقة المولدة من النفط والغاز الطبيعي، ما يعني بالتبعية خفض الاعتماد على الوقود الإحفوري وبالتالي تقليص الانبعاث الحراري عالمياً، وخفض أسعار الطاقة التقليدية، ناهيك عن أن فوائد محطات الطاقة النووية لا تقتصر على توليد الكهرباء بل تشمل عوائد بحثية وعلمية في مجالات الطب والغذاء والصناعة وغير ذلك.
الغرب يدرك جيداً تنامي مكانة المملكة العربية السعودية ودورها ونفوذها دولياً، وهناك إدراك واضح لأهمية دور المملكة في رسم ملامح الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة، والرياض بدورها تدرك جيداً قيمة وأهمية مابيدها من أوراق ومقومات تعزز موقفها في أي حوار مع القوى والتكتلات الدولية، لذلك فهي تتفاوض في مجمل الموضوعات بهدوء وحكمة وليست في عجلة من أمرها لمراكمة أي مكاسب استراتيجية وتحقيق أهدافها التنموية المستقبلية الطموحة لأن الوقت ببساطة في مصلحتها، فهي من أبزر القوى الصاعدة إقليمياً ولها تأثير قوي في إطار لعبة التنافس على الهيمنة والنفوذ في النظام العالمي الذي يجري تشكيله في مرحلة مابعد أوكرانيا.