في مقابلة تلفزيونية جرت مؤخراً مع قناة "فوكس" الأمريكية، جاءت تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مباشرة وواضحة وكاشفة وتضع النقاط على الحروف بشكل جلي، حيث نفى سموه ما ورد في تقارير صحفية عدة خلال الآونة الأخيرة بشأن تعليق المباحثات الجارية بين الرياض وواشنطن بشأن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وقال: "نقترب كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، وهي عبارة مهمة للغاية رغم أنها لا تمثل أي مفاجأة في سياق مواقف سموه الواضحة تجاه إسرائيل، التي نفى في حديث سابق أجراه في مارس من العام الماضي مع مجلة "اتلانتيك" الأمريكية أنها "عدو"، واعتبرها "حليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً لكن يجب أن تحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك".
الموقف السعودي بشأن العلاقات مع إسرائيل واضح للغاية، وأكده الأمير محمد بن سلمان في اللقاء الأخير حيث قال "بالنسبة لنا فإن القضية الفلسطينية مهمة للغاية، نحتاج إلى أن نحل تلك الجزئية، ولدينا مفاوضات متواصلة حتى الآن، وعلينا أن نرى إلى أين ستمضي، نأمل أن تصل إلى مكان تسهل فيه الحياة على الفلسطينيين وتُدمج إسرائيل في الشرق الأوسط". هذا الموقف الذي يربط عملية التطبيع السعودية ـ الإسرائيلية بحلحلة القضية الفلسطينية، يعبر عن رغبة سعودية حقيقية في إقامة علاقات سلام جدية مع إسرائيل، من خلال توفير الأساس القوي لهذه العلاقات، وهو البيئة الإقليمية المواتية التي تضمن تحقق هذا الهدف من دون التأثير سلباً في مصالح المملكة العربية السعودية ومكانتها الإستراتيجية الكبيرة في العالمين العربي والإسلامي، ومالها من دور قيادي مؤثر على هذا الصعيد، ناهيك عن التزام المملكة العربية السعودية على مدار العقود الماضية بدعم الشعب الفلسطيني، وهي كذلك صاحبة المبادرة العربية للسلام التي طرحتها في قمة بيروت عام 2002، ولا تزال تشكل، ولو نظرياً، الأساس لأي عملية تفاوضية بين العرب وإسرائيل.
الشواهد جميعهاً منذ تلك المبادرة، وآخرها إعلان "الممر الاقتصادي" الذي تشارك فيه المملكة العربية السعودية وإسرائيل معاً، تعكس التوجه السعودي نحو إيجاد بيئة اقليمية قائمة على التعاون والتنمية وأن إسرائيل ليست بمنأى عن أي توجه في هذا الشأن، بل هي في واقع الأمر، وبموجب هذه المشروع التنموي الضخم، حليف اقتصادي لكل الدول المشاركة في مشروع الممر سالف الذكر.
الموقف السعودي بشأن القضية الفلسطينية هو موقف قائم على العقل والمنطق ويعبر عن قناعات إستراتيجية للقيادة السعودية؛ فالسلام من دون التوصل إلى مقاربات وحلول تضمن تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني هي أقرب إلى أن تكون هدايا مجانية للمزايدين وتجار السياسة ناهيك عن تنظيمات إلارهاب والتطرف التي تقتات على شعارات الدفاع عن فلسطين وشعبها، وبالتالي فإن من مصلحة السعودية وحتى إسرائيل نفسها تحقيق إختراق في هذا الملف الجامد، من أجل إيجاد مناخ سلام إقليمي حقيقي، فضلاً عن بناء ثقافة تعايش وضمان الأمن المشترك لشعب إسرائيل والفلسطينيين معاً.
عندما يقول ولي العهد السعودي إن المملكة العربية السعودية تقترب أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل فهو يعني أن المفاوضات تمضي باتجاه تحقيق هذا الهدف، وأنه يؤيد هذا التوجه ويدعمه، ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض، لاسيما أن المسألة لم تعد ترتبط بتطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية، ولا بالقواعد الحاكمة للعلاقات السعودية ـ الأمريكية فقط، بل بإطار عالمي أشمل، حيث تتزامن هذه الخطوة مع تفاعلات دولية متسارعة لتشكيل ملامح النظام العالمي في مرحلة مابعد أوكرانيا، وهنا تبدو لكل خطوة، لاسيما من جانب القوى الاقليمية كالمملكة العربية السعودية، حسابات دقيقة، في ضوء ما يمكن أن يترتب على أي تموضع استراتيجي من نتائج ايجابية أو سلبية، وكذلك تداعيات محتملة على علاقات الرياض بالقوى الاقليمية الأخرى، وجميع هذه الأمور تتطلب إدارة دبلوماسية هادئة للغاية من جانب المملكة العربية السعودية كي تضمن تحقق الهدف الأساسي بعيداً عن فتح جبهات صراعية جديدة أو المغامرة بخسارة المكاسب الاستراتيجية المحققة في الآونة الأخيرة وخصوصاً على صعيد التقارب الذي تحقق مع إيران والذي يختلف هذه المرة في كونه يبحث عن ركائز تعاون اقتصادية واستثمارية تضمن له البقاء والاستمرار.
كل ما نشر عن الحوار بين الرياض وواشنطن بشأن تطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية يشير إلى أن هذه الخطوة ربما تأتي في إطار إتفاق شامل لإعادة صياغة التحالف التاريخي السعودي ـ الأمريكي، وهذا بحد ذاته أمر يحسب للدبلوماسية السعودية التي تتحرك في إطار رؤية استراتيجية عميقة لدور المملكة في القرن الحادي والعشرين، وهي رؤية 2030، التي تجسد مشروعاً طموحاً للغاية يوفر للمملكة العربية السعودية نقلة نوعية حضارية كبري، يحتاج تنفيذها على أرض الواقع إلى تغييرات جذرية في الفكر والسياسات، وأمن واستقرار وتعاون حقيقي بين جميع دول المنطقة من دون استثناء، وبناء شراكات ومسارات تعاون وتبادلات دولية لا تستثنى أحداً من الأطراف.
وإذا كانت دوافع إدارة الرئيس جو بايدن ودعمها القوي لهذه الخطوة مفهومة وواضحة ولاسيما ما يتعلق بقرب عام الانتخابات الرئاسية ورغبة البيت الأبيض في تحقيق إنجاز نوعي كبير للسياسة الخارجية الأمريكية، فإن تطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية يبقى مصلحة وتحد إستراتيجي عميق للطرفين معاً، والمسألة هنا لا تتعلق بصفقة قائمة على حسابات صفرية، بل وفقاً لقاعدة "رابح ـ رابح" التي تضمن لها البقاء والاستمرار والتطور، لأن التطبيع ليس هدفاً بحد ذاته بل إطار يمهد لمصالح مشتركة للبلدين والمنطقة والعالم.