من اليمن إلى الهند مروراً بإيران ودول أخرى عديدة تتحرك الدبلوماسية السعودية خلال الآونة الراهنة بنشاط ملحوظ يعكس حجم التحولات الإيجابية المتسارعة التي تشهدها السياسة الخارجية للمملكة. الشواهد في مجملها تشير إلى أن المملكة العربية السعودية تضع الملف اليمني في صدارة أولوياتها، وفي هذا الإطار، يمكن فهم الزيارة الأولى من نوعها التي قام بها مؤخراً وفد رسمي حوثي للسعودية منذ عام 2015، وهي إشارة إيجابية للغاية بأن المملكة العربية السعودية جادة للغاية وتمتلك من المبادأة والإصرار ما يوفر لجهودها فرص الاستمرار والنجاح بإذن الله، كما إنها إشارة على أن الحوار بين الجانبين قد دخل مرحلة جادة مرتكزاً على الأجواء الجيوسياسية الإقليمية الجديدة التي تتيح فرصة جيدة لتسوية الأزمات وانهاء الخلافات بين الأطراف كافة.
هذه الأجواء الاقليمية التي يرتبط بعضها بالسياسة الخارجية السعودية التي اتجهت في السنوات الأخيرة إلى بناء الجسور وبناء شبكة علاقات إقليمية ودولية تدعم طموحات المملكة وقيادتها في تحقيق رؤية 2030، التي تنطوي على خططاً ومشروعات تنموية كبرى ستغير وجه المملكة العربية السعودية وربما المنطقة بأكملها، بينما يرتبط بعضها الآخر بتغير لا ينفصل عن سابقه، وهو التقارب الحاصل في العلاقات الثنائية بين الجارتين، السعودية وإيران، وهو تغير إستراتيجي مؤثر لا محالة في العديد من الملفات الإقليمية ذات الصلة، وفي مقدمتها الملف اليمني، الذي يمر بمرحلة من الهدوء الذي يمهد للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة.
زيارة الوفد الحوثي الأخيرة للمملكة العربية السعودية سبقتها جولات مفاوضات ثنائية عقدت بوساطة عٌمانية، وتأتي ضمن المبادرة السعودية التي أعلنت في مارس 2021، وتهدف إلى التوصل لوقف دائم وشامل لإطلاق النار في اليمن، تمهيداً للتوصل إلى حل سياسي مقبول من الأطراف اليمنية كافة. والحقيقة أن هذه المبادرة تعكس ما يمكن وصفه بالروح السعودية الجديدة في التعامل مع القضايا والموضوعات كافة إقليمياً ودولياً، وبما يصب في الأخيرة في مصلحة تهيئة الأجواء لتنفيذ طموحات المملكة العربية السعودية التي تحتاج إلى بيئة إقليمية تحظى بالأمن والاستقرار، وعمل سعودي متواصل ودؤوب في القطاعات والمجالات كافة، وتسخير كافة الجهود، بما فيها الدبلوماسية، من أجل تحقيق هذه الطموحات التنموية، التي بدأ بعضها يتحقق على أرض الواقع مثلما رأينا في قمة مجموعة العشرين التي عقدت مؤخراً بالهند، والإعلان عن الممر الاقتصادي الجديد الذي يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي قال عنه سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كلمته أمام القمة "إن الممر الاقتصادي سيحقق المصالح المشتركة لدولنا من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي وما ينعكس ايجاباً على شركائنا من الدول الأخرى والاقتصاد العالمي بصورة عامة".
وجود الوفد الرسمي الحوثي في الرياض بعد زيارة وفود سعودية إلى صنعاء في إطار الحوار الثنائي المباشر يعكس في أحد جوانبه جدية الدبلوماسية السعودية ورغبتها في التوصل إلى حلول وتسويات للأزمة من خلال الحوار المباشر الذي يدور بوساطة عمانية، لاسيما أن الأزمة اليمنية قد تشعبت خلال السنوات القلائل الفائتة بسبب الإنقسامات والصراعات الداخلية، وبات لها تأثيرات وتداعيات عميقة على الشعب اليمني، ومن المؤكد أن التوصل إلى معالجات لهذه التأثيرات سيكون من بين القضايا والموضوعات الرئيسية التي يناقشها الجانبان السعودي والحوثي خلال اللقاء.
قناعتي، كمراقب، أن المملكة العربية السعودية تمتلك إرادة سياسية قوية تستهدف تحقيق إختراق نوعي وصولاً لحل دائم وشامل للأزمة اليمنية، لأن أمن واستقرار اليمن وبدء مرحلة جديدة للبناء والتنمية في هذا البلد العربي، بغض النظر عما سيتفق عليه الأشقاء هناك بشأن طبيعة الحلول والتسويات السياسية وغيرها، سيكون له تأثير إيجابي على مجمل أجواء المنطقة، وينزع فتيل ملف خلافي حيوي عالق بين الرياض وطهران، اللتان تتجهان إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية عنوانها تحقيق المصالح والمنافع المشتركة للبلدين.
بلاشك أن أجواء الانفراج الإقليمية، ولاسيما ما يتعلق بالتقارب السعودي ـ الإيراني يمثل فرصة ثمينة لتسوية الأزمة اليمنية، ويدعم هذا التصور أن هناك جهود وساطة عٌمانية مكثفة للتوصل إلى تسويات مقبولة من جميع الأطراف، وهي مسألة ليست هينّة ولا سهلة في ظل التعقيدات العميقة التي أحاطت بالمسألة اليمنية في السنوات الماضية، ولكن ما يبعث على التفاؤل أن هناك نوايا سعودية جادة وجهود دولية داعمة من جانب الأمم المتحدة ممثلة في مبعوثها هانس غروندبرغ، وكذلك المبعوث الأمريكي الخاص لليمن تيم ليندر كينغ، ووساطة عٌمانية تحرص على تنقية الأجواء الإقليمية وإحلال الأمن والسلام والاستقرار كي تتفرغ دول المنطقة وشعوبها للتنمية والبناء وتتفادى أي أثر للصراعات وموجات الاستقطاب الدولي التي تزداد حدة وشراسة.
بلاشك كذلك أن المملكة العربية السعودية التي تقود التحالف العربي الداعم للشرعية ليست طرفاً في الصراع الداخلي باليمن، ولكنها طرف إقليمي ودولي مؤثر للغاية في دعم الشرعية الدولية في هذا البلد، أو في تهيئة المناخ اللازم لتسوية الأزمة، وتمهيد الطريق أمام الأطراف المتصارعة وصولاً إلى بناء الثقة وفتح صفحة جديدة من خلال إتفاق دائم وشامل ينهي الأزمة من كافة جوانبها وأبعادها.
ولاشك أن حلحلة الأزمة من مربعها الحالي عبر سلسلة من التفاهمات والاتفاقات حول قضايا انسانية أو لوجستية أو أمنية يمثل اختراقاً نوعياً مهماً يمهد الدروب لما هو آت، ويفتح الباب أمام جولات تفاوضية تنتهي بحلول سياسية شاملة.