تتباين الآراء والتوقعات منذ سنوات بشأن موقف القوى الإقليمية الشرق أوسطية في حال امتلاك إيران أسلحة نووية، حيث تشير التجارب التاريخية إلى أن وجود قوة نووية في منطقة ما يمثل محفز حيوي ودافع رئيسي لبقية الدول لحيازة رادع نووي مماثل من أجل بناء نوع من توازن القوى، الذي يضمن الإستقرار، ويحول دون تفكير طرف نووي في الإعتداء أو حتى تهديد الطرف الآخر، أو في أقل الأحوال السعي لممارسة الهيمنة وبسط النفوذ بشكل مباشر أو غير مباشر في مجاله الحيوي بما يتماس مع مصالح دول الجوار ويهددها أو يؤثر سلباً فيها.
في حديثه مؤخراً مع قناة "فوكس نيوز" الأمريكية، أكد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي أن بلاده ستحذو حذو إيران في حال حصول الأخيرة على أسلحة نووية، في موقف يمثل إعلاناً سعودياً رسمياً غير مسبوق بشأن توجهات المملكة العربية السعودية الإستراتيجية في ضوء التفاعلات الإقليمية والدولية الراهنة، وما يرتبط بها من تطورات تتعلق ببرنامج إيران النووي.
لنا، كمراقبين، أن نتوقع أن القيادة السعودية عندما حسمت أمرها باتجاه الإعلان عن نواياها في هذا الموضوع الشائك، قد قارنت بين موقفين لكل منهما معطيات وحسابات ونتائج مختلفة، وهما إنتهاج سياسة/ دبلوماسية الغموض، أو تبني سياسة/ دبلوماسية المكاشفة والمصارحة والإعلان المباشر عن الموقف الرسمي السعودي حيال مسألة أمنية إقليمية فارقة ومعقدة مثل إمتلاك الجار الإيراني أسلحة نووية. ويبدو لي من خلال جردة حساب إستراتيجية بسيطة أن موقف الإعلان والمصارحة الذي تبناه الأمير محمد بن سلمان هو الأكثر أرجحية وعقلانية في التعاطي مع الموقف، الذي لا يحتمل ترك الإحتمالات والسيناريوهات والتخمينات تمضي في اتجاهات مختلفة بعضها لا يخدم بالتأكيد مصالح المملكة العربية السعودية وأهدافها الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد، فضلاً عن أن ترويج هذه السيناريوهات قد يتسبب في عودة التوتر المعلن أو الكامن إلى العلاقات السعودية ـ الإيرانية، وهو ما لا نعتقد أن البلدين يرغبان في حدوثه بعد التقارب الذي حدث في الآونة الأخيرة.
الغموض النووي ربما لا يصب في مصلحة المملكة العربية السعودية التي تسعى بالأساس إلى ترسيخ الأمن والاستقرار واتجهت إلى "تصفير المشاكل" مع الجميع إقليمياً من أجل تهيئة المجال والبيئة الاقليمية لتنفيذ رؤيتها التنموية الطموحة "2030"، وبالتالي يبدو أن الوضوح والمكاشفة أمر لازم في هذه المرحلة، حتى لا تجد القيادة السعودية نفسها في مواجهة طارىء قد يربك حساباتها أو يغير موازين القوى الإقليمية، ويتسبب في خلق توترات إقليمية جديدة تضاف إلى ما هو قائم بالفعل من توترات نجحت الدبلوماسية السعودية في تبريد بعضها، وفي طريقها إلى معالجة بعضها الآخر وصولاً إلى مبتغاها الخاص بالأمن والاستقرار الاقليمي. وليس سراً أن جميع الخبراء والمتخصصين يدركون تماماً أن إمتلاك إيران أسلحة نووية سيشعل سباقاً نووياً بين جميع دول المنطقة، لأسباب يعلمها الجميع بعضها يتعلق بسياسات وتوجهات طهران نفسها، وبعضها الآخر يتصل بالحسابات التقليدية للدول أياً كانت، ولاسيما فيما يتعلق بمتطلبات توازن القوى التقليدية وغير التقليدية في مثل هذه الظروف.
بإعلانها عن موقفها المشروط، تبعث المملكة العربية السعودية برسالة لجميع الأطراف المعنية بسقف وحدود التزامها في المسألة النووية، وهو موقف يعبر عن سياسات دولة مسؤولة وملتزمة بالقوانين والمبادىء والمواثيق الدولية، ولكن الأمر هنا لا يرتبط بتوجه سعودي آني بقدر ماهو رسالة صارمة لجميع الأطراف المعنية بأن امتلاك أسلحة نووية يمثل تهديداً للأمن والاستقرار الاقليميين، وأن العمل على تفادي الوصول إلى هذه النقطة أولوية قصوى يتعين على الجميع السعي إليها تفادياً لفتح الباب أمام سيناريوهات سباق نووي في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وأهمية للعالم أجمع.
هناك مواقف أخرى مشابهة في العالم للموقف السعودي الخاص بامتلاك أسلحة نووية في حال إمتلاك إيران لها، ومنها على سبيل المثال موقف كوريا الجنوبية، التي ترى أن هذا التوجه يقلل من إحتمالية نشوب حرب نووية في شبه الجزيرة الكورية، وكذلك كان الحال في وقت من الأوقات بين الهند وباكستان، حيث يفترض أن يردع توازن القوى، الآخر عن اللجوء إلى التهديد بالسلاح النووي ناهيك عن استخدامه فعلياً.
من المعروف ان إمتلاك التكنولوجيا النووية السلمية لإنتاج الطاقة الكهربائية أو لأغراض علمية وبحثية وغير ذلك، حق ثابت يكفله القانون الدولي لجميع الدول طالما كانت المفاعلات النووية منشأة طبقاً لمعايير الأمان المعتمدة، وتخضع لرقابة وكالة الطاقة الدولية، وهي قدرة معرفية مشروعة يحظر القانون الدولي أن تتحول إلى قوة نووية عسكرية، ولذلك فإن هذا التحول ـ إن حدث من جانب أي طرف ـ يضع الجميع أمام واقع جيوبوليتيكي جديد يضع حسابات الدول المجاورة بشأن الدفاع عن نفسها في مواجهة أي تهديد أو خطر محتمل فوق كل اعتبار.
عندما يؤكد ولي العهد السعودي عن الأسلحة النووية في منطقة الخليج العربي "لا نريد أن نرى ذلك"، فهو يعبر عن قناعة إستراتيجية راسخة لدى المملكة العربية السعودية بأهمية الأمن والاستقرار الاقليمي، وقد أكدها سموه ذلك بالقول إن حيازة السلاح النووي "لا فائدة منها وإن استعملته سيتعين أن تدخل في معركة كبرى مع باقي العالم، مشيراً إلى أن العالم "لا يحتمل هيروشيما جديدة بسبب الأسلحة النووية"، وهذه القناعة الراسخة لا تتعارض بطبيعة الحال مع متطلبات الحفاظ على أمن السعودية ومصالحها لجهة ضمان توازن القوى حين اللزوم.
حديث ولي العهد السعودي بشأن الأسلحة النووية هي بالدرجة الأولى رسالة تنبيه لمن يهمه الأمر بشأن خطر الأسلحة النووية، ولا تتعارض مطلقاً مع أجواء التقارب الحاصل عبر ضفتي الخليج بين الرياض وطهران، بل على العكس تماماً هي تصب في اتجاه محاولة ترسيخها وتوفير سبل استمرارها والحفاظ عليها، فضلاً عن أن مثل هذه الحسابات والمواقف الإستراتيجية للدول لا ترتبط بالبيئة الإقليمية والحالة السائدة في علاقات الجوار بقدر ما ترتبط بضمان أمن الدول ومصالحها على المدى البعيد.