الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة من أجل تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل هي الخبر الأبرز في التقارير الإعلامية المتداولة خلال الأشهر الأخيرة عن منطقة الشرق الأوسط. والتطورات في هذا الملف تصدر عن الجانبين الأمريكي والإسرائيلي عدا تعليقات نادرة من الجانب السعودي، وهذا هو نهج الدبلوماسية السعودية في التعامل مع الملفات كافة، فالحفاظ على السرية والتكتم حتى الإنتهاء من ترتيب الأوراق بشكل رسمي حدث من قبل في إدارة ملف التقارب بين الرياض وطهران.
الدبلوماسية السعودية تتسم بقدر عال من الهدوء والكياسة، وهذا الأمر يضمن لها قدراً عالياً من الإحترام والتقدير لدى الأوساط الإقليمية والدولية، كما يوفر لها هامشاً كبيراً من المناورة والوقت من أجل السعي لتحقيق أهداف محددة بدقة بعيداً عن صخب الإعلام، الذي يتحول في أحيان كثيرة إلى ورقة ضغط على أطراف أي عملية سياسية.
إدارة الرئيس جو بايدن ترى في نجاح مبادرتها الخاصة بتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل إنجازاً نوعياً مهماً قبل انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية للعام 2024، وإسرائيل من ناحيتها ترى في انخراط الرياض في مسيرة السلام تحولاً كبيراً في الخارطة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وهو كذلك بالفعل، ولكن يبدو أن المملكة تسعى إلى إعادة صياغة كاملة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة، وهو موقف يحسب لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود بلاده بذكاء مشهود على الساحة الدولية محققاً النجاحات واحداً تلو الآخر.
نجح الأمير محمد بن سلمان في إعادة تموضع المملكة العربية السعودية على خارطة العلاقات الدولية في غضون سنوات قلائل، وباتت السعودية أحد مراكز الجذب التي تستقطب إهتمام العالم، استثمارياً واقتصاديا وتجارياً ورياضياً وثقافياً، بكل ما يعنيه ذلك من تغيرات إيجابية جذرية في الصورة الذهنية التي ارتبطت بالسعودية طويلاً، وتحولات في السردية التي يمكن أن يحكيها العالم عن المملكة العربية السعودية في المجالات، حيث تتلاشى تدريجياً الأفكار السلبية والصور النمطية المقولبة التي كان يرددها الإعلام الغربي بشكل تقليدي كلما دار الحديث عن السعودية في أي مجال من المجالات.
نجحت القيادة السعودية الشابة أيضاً في جعل المملكة فاعل مؤثر في العلاقات الدولية، وحقق انجازات تنموية داخلية كان يمكن أن تستغرق عقوداً بالحسابات والمعايير التقليدية، وهو ما يثير اعجاب وتقدير عواصم صنع القرار الدولي، ويجبر الجميع على إحترام المشروع التنموي الطموح الذي يقوده ولي العهد الشاب بهدوء واقتناع يثيران دهشة كل المراقبين والمتابعين للشأن السعودي.
بالعودة إلى حديث السلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، نرى أن هذا المسألة ليست بعيدة عن الفكر السعودي الجديد، ولكن الأمر مرهون بحسابات إستراتيجية سعودية متشابكة، فالسعودية لها وضعية استثنائية على المستويين الروحي والاستراتيجي، كما أن علاقاتها مع الولايات المتحدة بحاجة إلى تفاهمات وتوافقات جديدة تتناسب مع الواقع الجديد في علاقات الحليفين التقليديين، وهذا ما يفسر قول صحيفة "واشنطن بوست" أن ولي العهد السعودي يقود "محادثات صعبة" مع الوسيط الأمريكي في موضوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
علينا، كمراقبين، أن نعترف بأن السعودية تتغير بشكل جوهري، وأن هذا التغيير لا يستهدف التطبيع مع إسرائيل، أو بناء علاقات أفضل مع الجار الإيراني أو غير ذلك، فالتغيير يستهدف مستقبل الأجيال المقبلة في المملكة بالأساس، يستهدف بناء سعودية تتماهى مع طموحات شبابها ومواطنيها، ويضعها في المكانة التي تليق بها كقوة إقليمية تتمتع بكل موارد القوة ومظاهرها، الصلبة والناعمة معاً، وبما يضمن للمملكة العربية السعودية امتلاك أوراق التأثير على الساحة الدولية بالشكل الذي يحقق لها مصالحها ويجعلها بمنأى عن الانخراط في صراعات او أزمات قد تعرقل مسيرتها التنموية الطموحة للغاية.
في ضوء ماسبق، يمكن أن نرى التطبيع مع إسرائيل والتقارب مع إيران في إطار توجه سعودي يسعى لترسيخ الأمن والاستقرار والتعايش في منطقة غاب عنها الاستقرار طويلاً، وهو أمر يندرج ضمن مسؤوليات المملكة العربية السعودية التي تعد قائدة للعالم الإسلامي، وعليها التزامات معنوية وروابط روحية لا تريد التضحية بها مع نحو ملياري مسلم، وبحيث تتحول إلى جسر للسلام ورأب الفجوات القائمة بين الحضارات والثقافات.
لذلك يبدو طبيعياً للغاية أن تكون هناك علاقات سلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، عاجلاً أم آجلاً بعيداً عن مزاعم "الضغوط الأمريكية" التي ثبت للجميع أن الرياض لم تعد تستجيب لها في حال تعارضت مع مصالح المملكة العربية السعودية وشعبها، وأن تكون إسرائيل "حليف محتمل" للمملكة كما سبق أن قال ولي العهد السعودية، الذي أكد كذلك أن إسرائيل ليست عدواً لبلاده، ولا يجب أن ننسى هنا أن الرياض كانت قد طرحت مبادرة طموحة للسلام في عام 2002، ما يعني أنه ليس لدى السعودية إشكالية أو حالة نفور من المبدأ، ولكنها بالمقابل تنطلق من دورها المحوري عربياً وإسلامياً، وتسعى لصيغة تنفيذية تحقق المصالح المشتركة للجميع وتضمن سلاماً واستقراراً فعلياً، فضلاً عن أن الرياض ترى في اللحظة التاريخية الراهنة الفرصة المثالية المناسبة لإعادة هندسة وتوصيف وترسيم علاقات التحالف مع واشنطن وفقاً للمعطيات الاستراتيجية الراهنة.
المملكة العربية السعودية تتحرك في إطار رؤية إستراتيجية واعدة وطموحة للعام 2030، وتحتاج إلى بيئة إقليمية مستقرة ومحفزة للاستثمار والتنمية، وهذه الرؤية باتت أحد محركات السياسة الخارجية السعودية، والكل يدرك أن انخراط إسرائيل في سلسلة المصالحات الاقليمية الأخيرة يمكن أن ينتج خارطة جيوسياسية بديلة لخارطة الصراعات الإقليمية التي سادت الإقليم طويلاً فيما مضى، ولكن الموضوعية تقتضي القول بأن على إسرائيل أن توفر البيئة الإستراتيجية الملائمة التي تشجع المملكة وغيرها على الالتحاق بقطار السلام.