يصعب وصف توجهات السياسة الخارجية السعودية في الآونة الأخيرة سوى بأنها إستراتيجية لفتح أبواب التعاون مع الجميع، والمسألة هنا لا تتعلق بـ"تصفير المشاكل" لأن الأخيرة تعني معالجة أوجه الخلاف القائمة مع أطراف أخرى والوصول إلى حلول وتسويات لها، بينما يبدو فتح الأبواب أوسع وأشمل حيث يعني فتح قنوات التواصل والحوار رغم الخلافات القائمة مع الرهان على أن يدفع هذا التواصل والحوار باتجاه تذويب أي خلافات وإنهاء أي معضلات في العلاقات مع الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى.
أحدث توجهات السياسة الخارجية السعودية النشطة على هذا الصعيد جاءت من خلال إستنئاف العلاقات الدبلوماسية مع كندا، لينتهي بذلك خلاف دام نحو خمس سنوات (منذ 2018) شهدت العلاقات التجارية والاقتصادية والطلابية بين البلدين خلالها تراجعاً ملحوظاً. وقد جاءت هذه الخطوة عقب لقاء عُقد في بانكوك على هامش قمة "أبيك" في نوفمبر الماضي بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وجاستن ترودو رئيس الوزراء الكندي، حيث اتفقا على هذه الخطوة التي تم الإعلان عنها رسمياً مؤخراً.
إستئناف العلاقات بين المملكة العربية السعودية وكندا هو أحدث خطوات المملكة على صعيد ترجمة طموحاتها التنموية والاقتصادية إلى خطط عمل لها أولوية قصوى، فلا صوت يعلو في السعودية الآن على صوت البناء واستئناف المسيرة الحضارية للمملكة وإعادتها إلى موقعها الذي تستحق بين الأمم والدول اقتصادياً وسياسياً واستثمارياً وثقافياً ورياضياً، ونرى ترجمة لذلك في المجالات كافة ويتابع العالم أخبار المملكة بكل شغف واهتمام وأيضاً اعجاب وتقدير واحترام لهذه التحولات النوعية المتسارعة.
الرسائل التي بعثت بها الدبلوماسية السعودية في السنوات الأخيرة، والمتعلقة بحتمية إحترام سيادتها الوطنية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فضلاً عن إلزامية مبدأ حسن الجوار وغيرها من المبادىء والقواعد الدولية، قد وصلت الجميع وما يحدث الآن سواء فيما يتعلق باستئناف العلاقات مع إيران وتركيا وكندا، أو بأي ملفات خارجية أخرى يعكس هذا البناء الجديد لعلاقات التعاون مع الدول الأخرى سواء المجاورة أو غيرها على أسس واضحة تحظى برعاية طرفي العلاقة، وهذا الأساس القوي الواضح يجنب أي علاقات بين الدول الإنزلاق إلى الأخطاء والممارسات السلبية التي طالما تسببت في إفساد الأجواء وإحداث القطيعة والأزمات في مراحل زمنية سابقة.
في هذه المرحلة، تحرص الدبلوماسية السعودية على تأكيد المعيار الحيوي لعلاقاتها مع دول العالم كافة، وهو الإحترام المتبادل والمصالح المشتركة، فلا مجال لتدخلات أي طرف في الشؤون الداخلية للآخر، ولا مجال لاستغلال المصالح كغطاء لهذا التدخل مهما كان حجم هذه المصالح وأهميتها، وهذا معيار مهم للغاية ولا يعني التأكيد عليه أنه يمثل إضافة جديدة للمبادىء والقواعد التي تحكم السياسة الخارجية للمملكة منذ تأسيسها، حيث نشأت السياسة الخارجية السعودية وتمحورت منذ البداية على المبادىء والقوانين والمواثيق والأعراف الدولية، التي تمثل إطار عمل للأمم المتحدة ومؤسسات العمل الجماعي الدولي كافة، وبالتالي فهناك قواعد ومعايير سعودية ولكن الحاصل في ظل ما تنتجه تفاعلات النظام العالمي أن هناك خروقات وتجاوزات، معروفة الأسباب والظروف للجميع ترتبط جميعها بمبدأ سيادة الدولة أو السيادة الوطنية، وبالتالي تحرص المملكة وهي تضع أقدامها على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل العلاقات الدولية، على إعادة ترسيخ القواعد والأسس التي ترى أنها ضامنة لوجود علاقات منصفة وعادلة وندية مع دول العالم كافة، وأهمها الإحترام المتبادل، الذي يعني في أحد أهم ممارساته التنفيذية عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
بلاشك أن مبدأ السيادة الوطنية يمثل أحد أهم المبادىء في القانون الدولي، حيث ينص ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية (البند الأول) على "تقوم الهيئة (منظمة الأمم المتحدة) على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها"، كما نصت العديد من الإعلانات الصادرة عن المنظمة الدولية على إلزامية مبدأ عدم التدخل، ومنها الإعلان الصادر في 6 ديسمبر 1981 ونص على "وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، أنه لا يحق لأية دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأي سبب كان، في الشئون الداخلية والخارجية لأية دولة أخرى"، ومفهوم أن مبدأ السيادة هو أحد ركائز العلاقات الدولية منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648، وهو أحد أسانيد القانون الدولي كونه الدعامة الأساسية لنظرية الدولة في الفكر السياسي الحديث، وبالتالي فإن بناء السعودية الحديثة وفق رؤية 2030 يمضي وفق رؤية إستراتيجية تضمن للمملكة الإستفادة من مقوماتها وامكانياتها وموارد قوتها الشاملة في ان تتبوأ الموقع الذي تستحق في النظام العالمي، الذي تتشكل معالمه في المرحلة الراهنة، وتلعب التفاعلات الجارية دولياً دوراً رئيسياً في توجيه بوصلته، ورسم ملامحه النهائية.