وسط تزاحم غرائبيات المشهد العربي، ورغم طغيان "الحدث" السوداني الذي يفرض نفسه على العرب جميعاً في الوقت الراهن، يبرز أيضاً المشهد الليبي الذي يبدو لافتاً في مستوى تعقيده وحجم الخلافات المثارة حول رسم مستقبل البلاد، حتى أن ليبيا باتت تنافس ملفات عربية أخرى بالغة التعقيد أبرزها لبنان.
مؤخراً، ذكرت تقارير إعلامية ليبية أن مدينة مصراتة قد شهدت مشاورات بين فاعلين سياسيين بشأن تشكيل حكومة ليبية "ثالثة" تتولى إدارة شؤون البلاد والمضي بها نحو الانتخابات، وأوضحت التقارير أن العمل على تشكيل حكومة ثالثة تجمع الفرقاء وتقود عملية تأمين الانتخابات يمثل حراكاً إيجابياً يعزز فرص الخروج من الأزمة الحاصلة بين الحكومتين القائمتين في البلاد.
تشكيل حكومة ثالثة يذكرنا بفكرة "الطريق الثالث" التي ترددت بقوة في نهاية القرن الماضي كحل وسط للخروج من المسارات التقليدية في السياسة والاقتصاد، ولكن الأمر في ليبيا لا ينطلق من قاعدة أيديولوجية كما كان الحال في النظريات الغربية، ويبدو كذلك كحل وسط في حال ترشح رئيسي الحكومتين الحاليتين للإستحقاق الرئاسي المرتقب في ليبيا، ولكن تبقى هذه المقترحات مجرد "أفكار" يصعب تطبيقها على أرض الواقع، لسبب أساسي هو أن الخلافات لا تدور حول "الآليات" المؤسسية بل حول صراعات المصالح والنفوذ، السياسي والاقتصادي، وبالتالي فمن الصعب تخلي أي طرف عن مصالحه من أجل الإحتكام للصناديق!
حكومتا شرق وغرب ليبيا يصعب أن تلتقيا على أرض مصراته، التي ينحدر منها عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة، وفتحي باشاغا رئيس الحكومة الليبية المعينة من قبل البرلمان، والتي تسيطر على جنوب وشرق البلاد، فمن الصعب تصور تخلي المتنافسين على السلطة في ليبيا عن مناصبهما الحالية من أجل الترشح للانتخابات الرئاسية.
الشواهد منذ بداية الأزمة الليبية تشير إلى صعوبة التوافق بين الحكومتين القائمتين، والمخرج الوحيد قد يكون في توافق الأطراف الإقليمية والدولية حول كيفية إجراء الانتخابات في ليبيا وليس فقط حول إتمامها في أقرب وقت ممكن، فالتوافق هنا قد يدفع طرفي الأزمة إلى تقديم تنازلات اضطرارية من أجل الحفاظ على حظوظهما في أي عملية سياسية محتملة، ومن دون ذلك يصعب القطع بأن ثمة ما قد يجبر الطرفين على القبول بخيار الطريق الثالث أو الحكومة الثالثة.
الاستنتاج السابق ليس تشاؤمياً بل هو نتاج للواقع، الذي تجلى بشكل لافت في مشهد أول أيام عيد الفطر المبارك، حيث انعكس الإنقسام السياسي على مشهد رؤية "هلال" العيد، واختلط الديني بالسياسي، لينتج مشهد عبثياً بامتياز، حيث احتفل شرق البلاد بالعيد في يوم الجمعة، بينما احتفل غربه يوم السبت، وانقسمت ليبيا وشعبها بين موقفين غرائبيين يضافان إلى جملة غرائبيات المشهد الليبي والعربي.
الحقيقة أن أزمة ليبيا ـ كغيرها من الأزمات العربية ـ لا تكمن في الانتخابات فقط، فتجذر الصراعات المصالحية لن ينتهي بظهور نتائج أي انتخابات محتملة، وفي ظل أجواء الانقسام والشكوك والمؤامرات يصعب أن يقبل أي طرف بما تؤول إليه النتائج، وبالتالي هناك حاجة ملّحة إلى توافق إقليمي ودولي وجهود جماعية كبيرة للم الشمل والمصالحة وتوفير الدعم الإقليمي والدولي اللازمة لإنجاح أي خارطة طريق يتم التوافق بشأنها داخلياً، حيث يصعب على الخارج فهم تعقيدات وفسيفساء الداخل الليبي، القبلي والسياسي تحديداً.
تلاشي الثقة بين الفرقاء في ليبيا وغيرها من مناطق الأزمات العربية يمثل معضلة صعبة وبالغة التعقيد، وستبقى كذلك لفترة حتى لو تم تنظيم انتخابات وفق قواعد ومعايير دقيقة وواضحة، حيث انتقلت أزمة الثقة إلى المجتمع الليبي الذي انقسم مناطقياً وقبائلياً بشكل غير مسبوق، وبات لكل طرف مصالحه ورؤاه للمستقبل، ولكن بداية الحل ربما تكمن في وجود إرادة إقليمية موحدة ومشتركة وقوية تتوافق على خارطة طريق لمستقبل ليبيا، وكذلك في تنفيذ هذه الخارطة بدعم كامل، وقبل ذلك كله السعي الجاد للتخلص من فوضى الميليشيا وانتشار السلاح في جميع مناطق البلاد، وهذه هي المهمة الأصعب التي لا يمكن القطع بقدرة الشركاء الدوليين على التعامل معها وانجازها بالشكل المرجو، لأن بقاء السلاح بيد طرف او أطراف سيبقى مهدداً رئيسياً لأي عملية سلام أو انتخابات قادمة بغض النظر عن شفافيتها أو سلامة ونزاهة الإجراءات المتبعة فيها.