الزيارة المهمة التي قام بها مؤخراً الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إل سوريا، جاءت لتكشف بعض جوانب التوجه الإيراني نحو هذا البلد العربي خلال المرحلة المقبلة، والتي تتسم بقدر عال من الحساسية بالنظر إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية العربية التي تستهدف عودة دمشق إلى حاضنتها العربية المؤسسية، وكذلك لإعادة ترتيب الأوضاع بين سوريا وأشقائها العرب.
قد لا يكون من المستغرب أن يقوم رئيسي بزيارة دمشق قبل أن يزورها رئيس عربي، لاسيما من الدول الحيوية أو المؤثرة، وذلك بالنظر إلى طبيعة الروابط والعلاقات القوية التي تجمع بين النظامين في سوريا وإيران، ولكن هذا كله لا ينفي إقتراب سوريا من العودة إلى موقعها عربياً، بل ربما تكون الزيارة ذات صلة وثيقة بهذه العودة المرتقبة، حيث تسعى طهران إلى ترتيب أوراقها وضمان مصالحها قبل أن تعود المياه إلى مجاريها بين دمشق وبقية العواصم العربية، لاسيما أن الإيرانيين يدركون تماماً أن العرب يطمحون إلى أن تقطع، أو على الأقل تحد، سوريا من علاقاتها مع إيران.
سوريا اعتادت من جانبها ومن قبل بداية الأزمة الراهنة في عام 2011، على الإحتفاظ بتوازن صعب في علاقاتها مع محيطها العربي الطبيعي من ناحية، وإيران من ناحية ثانية، وبالتالي هي تفكر في أن تعيد تطبيق هذه الصيغة "المجربة" إلى الحياة بعد ترميم العلاقات مع الدول العربية.
ليس فيما سبق كله أمر مفاجىء، فجميعها أمور متوقعة في ضوء التجارب والخبرات السابقة، ولكن اللافت أن إبراهيم رئيسي ذهب إلى دمشق ليصرح بأن الحل لمخاوف دول الجوار السوري هو عودة كل الأراضي السورية لسيادة الدولة مشيراً إلى أهمية عدم وجود أي قوات تركية على أي بقعة من الأرض السورية. هذا التصريح مهم للغاية ويستحق التحليل لما يثيره من تساؤلات، أولها يدور حول ماهية الدول التي يقصدها رئيسي بقوله "دول الجوار السوري"، فهو يقصد بذلك إسرائيل غالباً ، لأن المخاوف القائمة لدى الباقين لا ترقى إلى حد القلق الإسرائيلي مما يدور في سوريا ومستقبل التفاعلات القائمة هناك. والحقيقة أن الشق الأول من التصريح صائب تماماً، فالحل بالفعل لمخاوف جميع دول الاقليم وليس إسرائيل فقط، سواء قصدها رئيسي أم لم يقصدها، هو وحدة أراضي سوريا وضمان سيادتها على أراضيها، ولكن الشق الثاني جاء منقوصاً ومبتوراً، فمن المهم بالفعل عدم وجود أي قوات أجنبية، وليست تركية فقط، على أي بقعة من الأرض السورية.
المغزى هنا أن وجود قوات/ ميلشيا/ فصائل/ تنظيمات إيرانية تحت أي مسمى على الأرض السورية ينطوي على نفس الآثار والتبعات السلبية، التي ينطوي عليها الوجود العسكري التركي أو أي قوات أجنبية أخرى، فسيادة الدول لا تتجزأ، ولا تقبل القسمة على اثنين، ولا تسمح بخرق او انتهاك دون آخر لاسيما إذا كان هذا الوجود يجلب ازمات مع أطراف إقليمية أخرى مثلما عليه الحال مع إيران وإسرائيل. صحيح أن سوريا ليست في وضع يؤهلها في الوقت الراهن لدعوة إيران لسحب ميلشياتها من الأراضي السورية سواء لإستشعار الحرج السياسي، أو لحسابات تتعلق بتوازنات الواقع التنفيذي، أو لعدم حسم الموقف العسكري الداخلي بشكل قاطع، خصوصاً في ظل وجود ميلشيات إرهابية وأخرى إنفصالية لا تزال تسيطر على أجزاء من أراضي سوريه أو تتمركز بداخله، ولكن هذا كله لا ينفي أهمية الإتفاق على المبدأ وهو ضرورة مغادرة جميع القوات الأجنبية للأراضي السورية عاجلاً أم آجلاً.
يريد النظام الإيراني من سوريا أن تبقى في إطار ما يسميه "محور المقاومة" وأن يرسم لها سياساتها ودورها، وهي بذلك يسعى لأن تكون عودتها إلى العرب شكلية بحتة، وأن تبقى سوريا في معسكر إيران بل رأس حربة لمشروعها الإقليمي، بدعوى أن لها "مكانة مرموقة" ضمن ما يسميه بالحلف المضاد لإسرائيل، ويؤكد أن القضية الفلسطينية ستبقى القضية الأولى لإيران وأن تحرير القدس سيكون أولوية دائمة لبلاده، وهذا كلام كلاسيكي يدرك رئيسي أنه يدغدغ مشاعر الكثير من العرب والمسلمين، ولكن الواقع الذي لا نحتاج إلى سرده وجمع دلائله وبراهينه ينسفه نسفاً، فلا إيران تعمل لمصلحة فلسطين والفلسطينيين ولا هي تضع قضيتهم ضمن أولوياتها إلا إذا كانت الشعارات والهتافات هي المعيار الأساسي في حساب هذه النقطة الجدلية!
تصريحات رئيسي تضع سوريا وإيران في مربع وسلة واحدة حين تحدث عن مواجهات مع إسرائيل، وهذا ليس في مصلحة سوريا، التي انهكت الصراعات والأزمات شعبها، ولا اعتقد أن سوريا على وفاق تام مع تصريحات رئيسي في هذه الجزئية تحديداً، فأمن واستقرار سوريا لن يتحقق بوجود ميلشيات إيرانية أو موالية لإيران على الأرض السورية، والكل يعرف أن هذا الوجود يفتح الباب أمام تحركات إسرائيلية ضد أهداف عسكرية إيرانية يرى الجانب الإسرائيلي أنها تشكل خطراً على أمنه القومي، ما يعني أن سوريا تدفع تكلفة حرب الوكالة التي تخوضها إيران ضد إسرائيل، وهو أمر لا يصب بمصلحة الشعب السوري ولا يخدم محاولات إعادة الأمن والاستقرار وفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين من أبناء هذا البلد، وبالتالي فالادعاء والمطالبات بخروج القوات الأجنبية ينبغي أن تشمل "كل" وليس بعض أو تحديد طرف معين دون الآخر. صحيح أنه ليس من المنتظر أن تتخلى إيران عن وجودها العسكري في سوريا بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، باعتبار ذلك أحد مستهدفات دعمها لسوريا منذ عام 2011، وهناك دوماً الحجة القائلة بأنها موجودة بناء على طلب من الحكومة السورية، وصحيح كذلك أن من الصعب ترقب مطالبة سورية بخروج هذه الميلشيا على الأقل في ظل استمرار الأزمة والضبابية الأمنية والسياسية، ولكن من المهم كذلك أن تدرك إيران أن بقائها في سوريا يمثل أحد أبرز أسباب غياب الاستقرار عن هذا البلد العربي، وأن تشجع العواصم العربية سوريا على التماسك واستعادة سيادتها الوطنية على أراضيها، وتعزيز قدراتها وسيادتها تمهيداً للبدء لاحقاً في معالجة الأوضاع التي نشأت في ظل ظروف أمنية استثنائية، وفي مقدمة ذلك يأتي الوجود الميلشياوي الإيراني في سوريا.