يبدو أن قدر هذه المنطقة أن تظل تتجرع نتائج أخطاء القوى الكبرى، بل وتدفع فاتورة حساباتها المدمرة ومطامعها الكارثية. هذا ما تذكرته بالأمس القريب وأنا أتابع مقابلة أجرتها قناة “الجزيرة” مع أبو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وقال فيها إنه لا توجد خطط لدى تنظيمه لمهاجمة الغرب، وأن هدف جماعته هو الزحف نحو العاصمة دمشق وإسقاط حكومة بشار الأسد.
وإذا افترضنا أن الجولاني الكذوب صادق فيما يقول وهو ليس كذلك، وتعاملنا مع هذه التصريحات بقدر من التغييب الذهني للواقع وتجارب الماضي القريب منه والبعيد، فهل يمكن أن يكون هناك عاقل في الغرب يمكن أن يصدق أن “القاعدة” باتت مستأنسة وستكتفي بغنيمتها من الأراضي السورية من دون التطلع إلى ما هو أكثر، إن لم يكن على صعيد التهديد المباشر للدول الغربية، فسيكون تهديد مصالح هذه الدول وإرباك تحالفاتها في منطقة الشرق الأوسط؟
جبهة النصرة انتقلت من العمليات العسكرية الصرفة إلى الحديث في السياسة الخارجية، وما تصريحات الجولاني سوى نوع من التأسيس لخطاب سياسي “قاعدي” جديد، ذلك أن “النصرة” باتت إحدى أقوى التنظيمات والجماعات المتشددة العاملة على الساحة السورية المشبعة بفوضى التنظيمات، وهي تقود ما يعرف بجيش الفتح، الذي يتألف بدوره من 7 فصائل متمركزة في سوريا، وهو جيش ألحق هزيمة بقوات الأسد في شمال غرب البلاد خلال الشهرين الماضين، واستولى على مناطق واسعة من محافظة إدلب، ومنها عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم نفسه.
يقول الجولاني إن التعليمات التي يتلقونها من قيادة القاعدة هي عدم “استخدام الشام كقاعدة لاستهداف الولايات المتحدة وأوروبا”، مضيفا “نؤكد أن مهمتنا هي إسقاط النظام وحلفائه مثل حزب الله، ثم التفاهم مع الشركاء لإقامة حكم إسلامي رشيد”، وإذا أدركنا أن جيش الفتح الذي تقوده جبهة النصرة يضم فسيفساء واسعة من الطيف التنظيمي والحركي في سوريا، وهو جيش يحظى إن لم يكن بدعم أميركي فعلى الأقل ينال قدرا لا بأس به من غض الطرف الأميركي عن نشاطه، الذي يحظى بدعم مباشر من دول إقليمية عدة كما تؤكد التقارير الإعلامية، إذا أدركنا ذلك لاستنتجنا، ببساطة، أن واشنطن لا تمانع في نشر “دول التنظيمات” في الشرق الأوسط، حيث يصبح هناك دولة داعش، ودولة “القاعدة”، ودولة “الإخوان المسلمين”… وهكذا.
بل إن هذا المخطط ربما يكون نقطة انطلاق خطة التفكيك، أو التقسيم، سمّها ما شئت، والتبشير بشرق أوسط جديد. وربما يبدو الهدف الأميركي غير واضح للبعض في المرحلة الراهنة، فيما يحلّق بعض الباحثين عاليا في فضاء التنظير السياسي ويعتبرون ذلك بديلا أميركيا لنقل ساحة الصراع الإسلامي ـ الإسلامي إلى الداخل، وتوجيه شحنات الغضب من أنظمة الحكم القائمة إلى روافد إقليمية بدلا من أن تصب جام غضبها على العواصم الغربية، التي تتهمها هذه التنظيمات برعاية الدول “الدكتاتورية المتسلطة”… وغير ذلك من مفردات قائمة الخطاب المغلوط الذي يتصدر كثيرا واجهة الخطاب السياسي الأميركي، حين تريد واشنطن ممارسة لعبة الضغط وانتزاع التنازلات من العواصم العربية المؤثرة.
البعض يقول إن لدى أبو محمد الجولاني “مشروعه الديني الخاص الذي يعمل على تحقيقه”، وهذه بحد ذاتها إحدى عجائب الزمان، فمن هو هذا الجولاني حتى يكون له مشروع ديني خاص، وما هي بضاعته سوى القتل والذبح والخطف وسفك الدماء.
السؤال الآن: هل تصدق واشنطن وعود “القاعدة”؟ وهل باتت “العلاقة” حميمية وانتقلت من مربع الاستهداف، إلى فضاء التعاون والتنسيق إلى درجة الثقة العمياء في وعود قادة تنظيمات التطرف والإرهاب؟ من الممكن فهم هذا الأمر في ضوء نسق السياسة الخارجية الأميركية التي ترتكز على أسس براغماتية وظيفية بحتة، من دون أي اعتبار لأمور أخلاقية أخرى، وفي هذه الجزئية تحديدا أرجو ألا يحاججني أحدهم بأن هناك مبادئ وثوابت وقيما تحكم هذه السياسة وغير ذلك من شعارات ترفع أحيانا ويكذبها واقع السلوكيات السياسية في أحايين ووقائع كثيرة، علما بأن هذه الازدواجية ليست هي جوهر المشكلة، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في من يصدق أن هناك مٌثل ومبادئ يمكن أن تضمن مصالح للقوى العظمى الوحيدة المتربعة على عرش النظام العالمي الجديد.
أنا شخصيا لا أصدق لبرهة أن أحلام الظواهري التي تحلّق عاليا من كهوف أفغانستان، لتصل إلى الجولاني ورفاقه في سوريا تتوقف عند دمشق، بل إنه من الغباء أن يتوقف هؤلاء عن مدّ البصر ورفع سقف الطموح إلى حواضر إسلامية وعربية أخرى، ولم لا والمعطيات جميعها مشجّعة واللحظة التاريخية الراهنة سانحة والكل غافل عمّا يفعلون!
أثق أيضا أن الولايات المتحدة، باستراتيجييها وخبرائها ومنظريها ومعاهدها البحثية العريقة، لن تعجز عن إنتاج تصورات وتقديرات إستراتيجية واقعية تحدد آفاق تحركات “القاعدة” في سوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية، ومن ثم فإن قلقي، الشخصي، يزداد ليس لسوء إدراك الساسة الأميركيين، لا سمح الله، لما يحدث في وضح النهار وأمام أعينهم بل ورعايتهم، ولكن قلقي الأهم هو من تحالف الضرورة الذي يمكن أن ينشأ بين فرقاء لا يلتقون، أو تقاسم كعكة المصالح بين غرماء العلن، وما ينتجه ذلك من أضرار هائلة وخسائر فادحة للشعوب العربية والإسلامية، التي لم يعد ينتظر الكثير منها سوى سيناريوهات الشتات والملاجئ في فيافي هذه الدولة أو تلك.
تحرك يا جولاني نحو دمشق ورعاية واشنطن تحفظك وتحميك… وثق في أن وعودك بالاكتفاء بقضم جزء غال من الأراضي العربية موضع الثقة في الغرب، فقد آن أوان توزيع “الكعكة” ويبدو أنّ هناك توافقا على ما طلبته من نصيب، أما مصالح الدول والشعوب العربية فلها قادة أوفياء لن يتخلوا عنها ما ظلوا على قيد الحياة، فمن السفاهة أن نسلم مصير شعوبنا إلى مصاصي الدماء وأعداء الحضارة والإنسانية حتى وإن احتموا برعاية أميركية.