مفهوم الجهاد المختطف من قبل الارهابيين هو أكثر المفاهيم والمصطلحات الاسلامية التي تبدو بحاجة ماسة وملحة إلى إعادة تعريف وضبط اصطلاحي ومفاهيمي.
في خضم الاعتداءات والجرائم الارهابية التي يرتكبها تنظيم داعش في دول عدة بشكل مستمر، هناك توظيف لافت لأحد أهم المفاهيم في الفكر الإسلامين وهو مفهوم "الجهاد"، فالتنظيم يحاول تسويق جرائمه ضد المساجد الشيعية في الكويت والسعودية باعتبارها "جهاد" من أجل السنة، الذين يعانون جراء ممارسات التنظيم البشعة بل هم في صدارة ضحايا داعش، ما يفرغ دعاوى التنظيم في هذا الشأن من مضمونها.
على الجانب الآخر هناك خطاب إيراني يحاول ترويج أفكاره حول ارتباط التطرف بالفكر الديني السني، وتحديدا المذهب السائد في دول عربية بعينها، قفزا على حقائق الواقع التي تؤكد وقوف إيران وراء روح الكراهية والعداء المذهبي الذي استشرى في المنطقة خلال السنوات الأخيرة كنتيجة مباشرة لسياسة الحرب بالوكالة التي تنتهجها طهران في دول عربية عدة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، حيث تتدفق الأموال الإيرانية على مجموعات وتنظيمات شيعية مسيسة وموالية لإيران وتعمل لمصلحتها وتتبنى أهدافها من دون ادنى اعتبار للولاءات الوطنية وقواعد التماسك والاستقرار الاجتماعي في تلك الدول.
هذه الأجواء التي أوجدتها إيران وولد من رحمها تنظيم داعش هي التي تقف وراء الفوضى العارمة في مناطق ودول عدة بالشرق الأوسط خلال المرحلة الراهنة. والمؤكد أن بيئات الكراهية المذهبية والطائفية هذه هي الحاضنة الرئيسية لأي فكر متطرف سني أو شيعي على حد سواء، ومن ثم يصبح الخلاص من الأعراض رهن القضاء على الأسباب والبيئة الحاضنة لهذا الفكر.
صحيح أن جهود نشر الوسطية وقيم التسامح والاعتدال وقبول الآخر تبدو في غاية الأهمية، ولكن هذه الجهود ربما تظل محدودة الأثر ما لم تبذل جهود موازية من أجل تفكيك الخطاب التحريضي والطائفي والارهابي على الجانبين السني والشيعي. ومن يريد فهم الخطر العميق لهذا الخطاب، يمكن أن يتابع لبعض الوقت ماتبثه قنوات بعينها على فضائيات تابعة أو ممولة لدول وتنظيمات وجماعات بعينها كي يدرك حجم الشحن الطائفي المتواصل الذي يقود العالم العربي والإسلامي إلى هاوية صراع ديني عميقة ربما تفوق ما عاشته القارة الأوروبية في العصور الوسطى ضمن ما يعرف بعصور الظلام، والتي شهدت حروب دينية شرسة استغرقت نحو ثلاثة عقود قضت خلالها على الأخضر واليابس.
ربما يرى البعض أن الخطاب الديني يحتاج إلى تنقية منذ سنوات وعقود مضت، ولا تبذل جهود كافية على هذا الصعيد، فيما يرى آخرون أن هناك مفاهيم ذات صبغة عقائدية حساسة يتم توظيفها في التحريض مثل الجهاد والحاكمية وغير ذلك. وهذا صحيح إلى حد كبير ولكن الحساسية التي تغلف هذه المفاهيم لا تعني مطلقا ترك الساحة لأبواق الشحن الطائفي بما تنذر به من شر مستطير، بل ينبغي تفكيك الخطاب الارهابي المتشدد سواء صدر عن أشخاص أو فضائيات شيعية أو تنظيمات وجماعات سنية متطرفة.
"الجهاد" من أبرز المفاهيم الحركية التي لم تحصل على ما تستحق من اهتمام الباحثين وعلماء الدين الإسلامي الحقيقيين، حيث تعرض هذا المفهوم لاختطاف علني من قبل المتطرفين والارهابيين، ممن يتاجرون به علنا وليل نهار من دون أي محاولة جادة لوقف فوضى التفسير والتأويل والتقول وتحميل هذا المفهوم ما يفوق طاقته والمقصود منه وما ينطوي عليه من رمزية دينية هائلة.
الكل يرفع راية الجهاد وينطق بخطاب يوصف بالجهادي ويتبنى فكراً يوصف هو الآخر بالجهادي، بل إن هناك من الباحثين من يخطىء ـ عن غير قصد ـ ويسمى التنظيمات الارهابية بالتنظيمات الجهادية، ويربطها بشكل واضح بفكرة الجهاد ومفهومه ومراده الديني، بل ويضفي على ممارسات هذه التنظيمات نوعا من المشروعية الدينية غير المطلوبة. ومن ثم فإن مفهوم الجهاد المختطف من قبل الارهابيين هو أكثر المفاهيم والمصطلحات الاسلامية التي تبدو بحاجة ماسة وملحة إلى إعادة تعريف وضبط اصطلاحي ومفاهيمي، كي يمكن التفرقة بين الجهاد كمفهوم وأمر إلهي حقيقي وبين ماتفعله هذه التنظيمات من فساد وإفساد في الأرض.
هذا الدور التنويري هو دور علماء الدين الحقيقيين الذين لم يبذلوا مايكفي من جهود ـ حتى الان ـ لتعرية الفكر المتطرف وفضحه وكشفه، بل يكتفون في معظم الأحيان بإدانته والبراءة منه مع أن عقول الأجيال الشابة الجديدة تبدو بحاجة إلى مدخلات عقلانية توازي في قوة تأثيرها ما يصدره الطرف الآخر (الارهابي) من تأويلات وتفسيرات ترفع شعار الدين لاستقطاب العواطف الدينية الجياشة لدى صغار السن والشباب واستلاب عقولهم.
ما يروجه منظرو الجماعات الارهابية حول مفهوم "الجهاد" يفتقر إلى فقه الواقع ويستند إلى فتاوى أئمة الاسلام في مراحل تاريخية مغايرة وظروف مختلفة قد لا يصلح معها استدعاء هذه الفتاوى وتطبيقها في المرحلة التاريخية الراهنة بكل معطياتها وظروفها وسماتها، وفي ظل غياب أي توضيح ذي مصداقية لحقيقة المفهوم وكيفية تطبيقه بمختلف درجاته ومستوياته ومعاييره وعوامل المسؤولية المرتبطة به، تبقى الساحة الدعائية خالية أمام أئمة الشر ودعاة الفوضى والفتنة ممن اتخذوا من مفهوم "الجهاد" سبيلا لتحقيق أهدافهم ومصالحهم السياسية والمادية.
وتزداد خطورة الترويج بشكل خاطئ لمفهوم الجهاد في حالة استخدام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لأن هذه الوسائل الحديثة توفر للعناصر الارهابية الالتفاف على الملاحقة الأمنية القوية واستقطاب متعاطفين جدد من شرائح جديدة وتحولهم إلى خلايا نائمة أو "مشروع انتحاري"، يمكن أن تتحول في لحظة ما إلى انتحاري فعلي طالما توافرت له ظروف معينة. وهذا الخطر الجديد هو ما يطلق عليه الذئاب المنفردة، التي تتحرك بقرار ذاتي من دون تنسيق مباشر مع القيادات المركزية لتحقيق أهداف يتم الترويج لها تنظيميا وأيديولوجيا عبر فترات طويلة نسبيا.
الخطاب الديني لم يعد بحاجة إلى تطوير فقط، لاسيما أن مصطلح التطوير بات يواجه بطعنات دعائية من جانب المتطرفين، ويربطونه ـ زيفاً ـ بالتغريب والتخلي عن الدين، ومن ثم تحتاج مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى جهود جبارة ومخلصة ومتواصلة على المستويات كافة، وخطاب ديني فعال ومؤثر وقادر على الاقناع وتوجيه الأجيال الجديدة وتشكيل اتجاهاتها بما يتواكب مع صحيح الدين وجوهر مفاهيمه وفي مقدمتها مفهوم الجهاد.