المسيرة الخضراء هي إحدى ثمار هذا التلاحم الفريد بين الإرادة الشعبية والقرار السياسي في المملكة المغربية على مر العصور والدهور.
من خلال تجارب البشرية على مر العصور، يبرز الوعي الجمعي للشعوب باعتباره الحاضنة الرئيسية للهوية الثقافية والاجتماعية والحضارية للشعوب جميعها، ومن هنا تبرز أهمية الأفكار الاستثنائية في حياة هذه الشعوب. ولاشك أن المسيرة الخضراء هي إحدى هذه الأفكار الاستثنائية في تاريخ المملكة المغربية، حيث تنطوي الفكرة على خليط متشابك ومزيج متداخل من التخطيط السياسي والاستراتيجي وصولا إلى السيطرة على أدوات العمل الميداني ودقة التنفيذ وضمان تنفيذ البرنامج الزمني والمكاني للمسيرة وفق ما تم التخطيط له.
إن تحرك شعب كامل سعيا وراء مطلب وطني عادل فعل أصيل يعكس تجذر الوعي والأصالة والولاء والانتماء ويعزز الروح الوطنية ويعمق الوعي الجمعي بقيمة الأرض والتراب الوطني ويغرس في عقول شبابه وأجياله كافة قيم نبيلة ويشعرهم بأهمية الوطن ومكانته وضرورة التمسك بكل حبة من رماله وكل شبر من أرضه. ولاشك أن المسيرة الخضراء هي إحدى المحطات التاريخية التي تعمقت من خلالها الهوية الوطنية والثقافية للشعب المغربي، فالنضال المغربي الذي يضرب بجذوره في عمق التاريخ القديم والمعاصر، لم يكن ليتوج سوى بواحدة من الأحداث والمحطات التي تتماهى مع عراقة هذا التاريخ النضالي وأصالته وتفرده.
تعكس المسيرة الخضراء أيضا فكرة التلاحم بين القائد والشعب في لحظة تاريخية فارقة، هي تلك التي جمعت بين العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني والشعب المغربي الذي استشعر تاريخية المبادرة التي اقترحها زعيمه ـ وقتذاك ـ فما كان منه سوى الالتفاف حولها بقوة والانطلاق تحت رايتها لتحرير الأرض واستعادة أقاليمه الصحراوية على قاعدة القانون الدولي إثر إقرار محكمة العدل الدولية بالروابط القانونية التي جمعت بين سلاطين المغرب والصحراء.
المسيرة الخضراء هي إحدى ثمار هذا التلاحم الفريد بين الإرادة الشعبية والقرار السياسي في المملكة المغربية على مر العصور والدهور، فإحدى السمات الخصوصية للأشقاء في المملكة المغربية تتمثل في عمق الترابط بين الشعب والقيادة، وهي سمة تسري في وجدان هذا الشعب ولا تزال حاضرة بقوة في ربوعه وبين أطيافه كافة، وتتجسد اليوم في الالتفاف الشعبي الداعم للقيادة المغربية الحالية ممثلة في الملك محمد السادس، الأمر الذي يلعب دورا بارزا في تحصين الأجواء والبيئة المغربية ضد العواصف السياسية والاضطرابات الفكرية التي تموج بها مناطق ودول عدة في العالم العربي.
إن تمسك الشعب المغربي بروح المسيرة الخضراء هو إحدى سمات العبقرية التاريخية والثقافية لهذا الشعب، فمثل هذه الروح الوطنية هي جدار صد قوي ضد أي فكر ضال أو منحرف يريد أن ينتهك أمن الشعوب واستقرارها وينال من مكتسباتها، كما أنها جدار عازل صلب يفصل بين المعدن الأصيل للشعب المغربي من ناحية وبين أي محاولات قد تستهدف تفتيت فكرة الوطنية لمصلحة أي انحيازات أيديولوجية أو حزبية ضيقة. وقناعتي الذاتية هي أن شعوب عربية عدة بحاجة إلى استلهام روح المسيرة الخضراء ليس فقط على صعيد الدعم الشعبي والجماهيري لفكرة وطنية خالصة، بل أيضا على صعيد الوعي بقيمة الوطن والأرض والدفاع عنهما في مواجهة مؤامرات الداخل والخارج.
وعندما يحتفل المغاربة بمرور أربعة عقود على المسيرة الخضراء، فإنهم يستعيدون هذه الروح النضالية الوطنية الجبارة لتوفر لهم قوة دفع متجددة تدعم خطاهم الحثيثة في مسيرة البناء والتنمية المعاصرة، وقد لا يكون هناك أروع من تلك المحطة التاريخية لإضافة زخم نوعي للعمل الوطني المغربي كون تلك المحطة لم تكن خطبا ولا دروسا نظرية في العمل الوطني بل كانت ممارسة واقعية وسلوكا فعليا يترجم قيمة الوطن ومكانته في النفوس.