لا يمكن الحكم على المرزوقي إلا بأفعاله. فالرجل الذي أفنى عمره يطالب بضرورة فصل الدين عن السياسة، استسلم في أول فرصة للتحالف مع جماعة الاخوان المسلمين من أجل الجلوس على كرسي الرئاسة التونسية.
لم يخطر ببال الجميع أن يجلس الرئيس التونسي السابق منصف المروزقي على مقعد الإرشاد الديني، ويتحدث عن "علامات الساعة"، ويخلط الدين بالسياسة بمصالحه واوهامه الشخصية التي لا يكف ولا يمل من ترديدها! ما أدركه ـ شخصياً - ويدركه القراء الكرام - أن المرزوقي أحد رموز اليسار في عالمنا العربي، ولكن آثر انتهاج خط مواز في توجهاته الفكرية والأيديولوجية مراعاة لمصالحه الذاتية مع حلفائه من حركة النهضة الاخوانية في تونس الشقيقة.
ورغم أن المرزوقي نفسه كانت آراء حادة في خلط الدين بالسياسة وتوظيف الأول لمصلحة الثانية بشكل بالغ الفجاجة، حيث كان يعتبر دوماً أن الدين كان على مر التاريخ ضحية عملية سطو من طرف السياسيين، فإذا به نفسه يمارس السطو على الدين ويزج به في أتون السياسة، ويتحدث عن علامات الساعة لاستقطاب تأييد شريحة معينة من الجمهور وتحريضها ضد دولة الامارات العربية المتحدة، مكرراً مزاعمه حول تدخلها في الشأن المصري!
لا أدرى لماذا يصر المرزوقي على تجاهل الحقائق ومحاولة نفي إرادة غالبية الشعب المصري التي خرجت في الثلاثين من يونيو عام 2013 لتطيح حكم رفاقه من جماعة الاخوان المسلمين، ولماذا يصر رئيس سابق على دس أنفه في شأن داخلي لدولة عربية أخرى، وهو من يفترض فيه إدراك سوء فعله هذا، وأثره السلبي سواء على العلاقات التي تجمع بين دولة الامارات العربية المتحدة وتونس الشقيقة، أو بين الأخيرة ومصر الشقيقة!
ترى هل فوض المصريون منصف المرزوقي للحديث باسمهم وترديد المزاعم حول أوضاع الحكم في هذا البلد العربي الكبير؟ بالقطع لا، ولكني أدرك تماماً أن المرزوقي يخوض حرباً إعلامية بالوكالة نيابة عن قيادات جماعة الاخوان المسلمين الهاربين في تركيا ودول أخرى، فهؤلاء القادة يدركون أن أوراق التوت التي كانت تخفي مشروعاتهم ومؤامراتهم الخبيثة قد سقطت، وأن وجوههم لم تعد مقبولة من جانب الشعوب العربية، فقرروا الدفع بوجوه "ممولة" تردد نفس الخرافات والخزعبلات، وتطرح المطالب الساذجة التي لا يزال هؤلاء يرددونها رغم يقينهم بأنها باتت من الماضي، وأن الحديث عنها ضرب من العبث والصبيانية الخائبة.
وإذا كانت ظاهرة الصراعات العسكرية والحروب بالوكالة قد اجتاحت منطقتنا في السنوات القلائل الماضية، فإن ظاهرة الحروب الاعلامية بالوكالة تبدو هي الأخرى تجارة رائجة هذه الأيام، فما تفوه به المرزوقي ضد دولة الامارات العربية المتحدة ليس سوى حرب دعائية يشنها نيابة عن رعاته وحلفائه من جماعة الاخوان المسلمين الارهابية، الذين يدركون أن حملاتهم الاعلامية التي خططوا لها في الأعوام الأخيرة ضد دولة الامارات قد باءت بالفشل ولم تلق أي صدى لدى الشعوب العربية، ولم تفلح في تحقيق هدف تشويه الصورة الذهنية للامارات ولا الصاق الاتهامات بها، فما كان من هؤلاء إلى التخفي وراء أسماء تارة ولافتات تارة أخرى، فتجدهم مرة ينطقون على لسان شخصيات لم يعد لها مكان في دولها ووسط شعوبها مثل المرزوقي وغيره، وتجد بصماتهم في تقارير صحفية مغرضة تنشرها صحف وأقلام معروفة باللانتماء وبكونها مدفوعة مقدماً تارة أخرى.
لا أقول أن رحلة المرزوقي الفكرية والبحثية والسياسية طيلة سنوات عمره السابقة كانت خاوية، فالرجل مشهود له بحياة حافلة بالسياسة وغيرها، ولكن حاله كحال كثيرون أصابهم الشطط في سن متأخرة جراء شهوة السلطة والاضواء، فالرجل الذي أفنى عمره يطالب بضرورة فصل الدين عن السياسة، استسلم في أول فرصة للتحالف مع جماعة الاخوان المسلمين من أجل الجلوس على كرسي الرئاسة التونسية. ويبدو أنه قد تعلم من فترة تحالفه مع الإخوان المسلمين ان الأمور تمضي وفق الأهواء التي ترتدي ثوب الدين والتدين الشكلي، الذي يمثل غلافاً براقاً لبضاعة زائفة، فلم يجد المرزوقي بد من التحالف مع الاخوان المسلمين كي يحقق مآربه السياسية، فتبنى خطاباً سياسياً دينياً دافع فيه عن شعارات الاخوان المسلمين ومآثوراتهم الفكرية، وغلف موقفه الانتهازي بإطار ظاهري يقول بأهمية استيعاب التيار الاسلامي إذا التزم بالديمقراطية الحقيقة بعيداً عن الانتهازية!! ولكن هذه الرؤية التي تبدو للبعض منفتحة في ظاهرها اُختُزلت في حقيقتها في التقارب بين المرزوقي والاخوان المسلمين، فلم يحقق هذا التحالف سوى مصالح الطرفين بالبقاء في السلطة لثلاث سنوات لم يحققوا خلالها للشعب التونسي الشقيق سوى قليل من العمل وكثير من الانشقاقات.
أشعر بالشفقة إزاء مايحمله منصف المرزوقي من غل وحقد تجاه دولة الامارات لا لشىء سوى لأن الرجل لن يقدر على تنفيذ المطلوب منه في هذا الشأن، فقد ضل الطريق وغامر بنفسه، وحرق تاريخه بالتخبط في دهاليز السياسة متحالفاً مع جماعات وتنظيمات هو أول من يدرك خطورتها وتأثيراتها المدمرة على الأمن والاستقرار ويعي تماماً حقيقة نواياها وأغراضها السلطوية، ولكنه تجاهل ذلك كله ولم يفطن إلى التفرقة بين الغث والسمين، فظل ينتقل بين الصحف والفضائيات، وليس على لسانه وبين شفتيه وأمام عينيه سوى هدف الاساءة إلى دولة الامارات والطعن في عروبتها وقوميتها ودعمها لأشقائها العرب، في سعيهم نحو الأمن والاستقرار، وتفادي سيناريوهات الفتنة والاحتراب الأهلي.
أقول للمرزوقي ماأثق أنه يعرفه جيداً، واكرر له أن دولة الامارات العربية المتحدة لا تنفق أموالها عبثاً وهراءً بل تقدمها لشعوب عربية شقيقة إدراكاً منها لواجبات الأخوة والأصالة العربية، وأن هذه المواقف الاماراتية الأصيلة لم تكن تستهدف سوى الحيلولة دون انهيار ركن ركين في الأمن القومي العربي، لا قدر الله ذلك، وهو مصر الشقيقة، بكل مايعنيه ذلك السيناريو الكارثي من عواقب وخيمة على الامارات وشعبها وغيرها من الدول العربية، ومن ضمنها تونس الشقيقة، فسيناريو الفوضى الخلاقة الذي نفذ ـ للأسف ـ بأيد عربية تعمل تحت شعارات وأيديولوجيات خبيثة ـ لا يزال ساري المفعول في سورية واليمن وليبيا، ولم يكن أمام أي دولة تؤمن بعروبتها وقوميتها سوى أن تقف حائط صد منيع ضد هذه الفوضى العارمة.
وأقول له أيضا، وهو خير من يدرك التاريخ، إن مواقف الامارات وقيادتها وشعبها في مساندة مصر ودعم شعبها ليست وليدة اليوم ولا الأمس، ومن يحاول تشويه هذه المواقف والاساءة إليها، فعليه أن يشكك في مواقف حكيم العرب المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ حين تجاهل حقيقة حداثة عمر دولته الفتية وقتذاك، وتبنى موقفاً تاريخياً في دعم جيش مصر العظيم في حرب الكرامة والتحرير عام 1973، فهل كان هذا الموقف البطولي يستهدف التآمر على مصر وشعبها ومستقبلها؟! اليوم يامرزوقي هو امتداد للأمس وأبناء زايد الخير يعرفون قدر مصر ومكانتها وقراراتهم في دعمها لا تخضع لأهواء الجماعات والتنظيمات بل تبنى على حقائق وتستهدف مصائر شعوب ارتضت الامارات أن تقتسم لقمة الخبز معها، كما أعلنها صراحة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو من هو في التشبع بقيم ومبادىء مدرسة زايد الخير ـ طيب الله ثراه ـ ومواقفه في ذلك واضحة جلية لاسيما في ما يتعلق بإيمان سموه اليقيني بقيمة مصر وحتمية استقرارها والحفاظ عليها وحمايتها من كل سوء.