قد لا يكون جديداً القول أن الصورة باتت العنصر الاعلامي الأكثر تأثيراً في السنوات الأخيرة، ولكن ماحدث في الأيام الأخيرة من انتشار، بل طغيان هائل للصور المتداولة للمذابح البشرية التي تتعرض لها مدينة حلب السورية،
يثبت أن الصورة قد انتقلت من مربع التأثير إلى مربع "السلطة"، وتسيدت على كرسي السيادة الاعلامية في عصر الانترنت.
فسلطة الاعلام قد اختزلت تماماً في الصورة، ولم يعد هناك حاجة كثيرة لتدبيج المقالات ونشر الآراء، شرحاً وتفسيراً وتحليلاً لأي محتوى إعلامي. وهذه السلطة الاعلامية الجديدة برزت نتيجة اندماج قوتين عظميين في الوقت الراهن، هما قوة وسائل التواصل الاجتماعي، وقوة الصورة بكل ماتمتلك من هالة وعناصر تأثير فائقة على المتلقين أو الجمهور.
الصورة في عصر التلفاز، ومن قبله الصحافة، كانت تمتلك تأثيراً قوياً ولكن امتزاجها مع قوة وسائل التواصل الاجتماعي، منحها زخماً إضافياً هائلا، ونحت لها منطقة سيطرة ونفوذ سلطوية جديدة. وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، كانت أكاديميات ومعاهد الاعلام تدّرس سمات "عصر الصورة" وتأثيراته، وتتابع التطور التاريخي للصورة وانتقالها من "الهامش" إلى "المتن"، أو من موقع الدعم الفني والاخراجي للحدث، أي جذب الانتباه، إلى أن تصبح الصورة هي التأثير ذاته وتصبح المتون، تابعاً لا متبوعاً.
أما وسائل التواصل الاجتماعي فقد منحت "الصورة" سلطة مطلقة في تشكيل اتجاهات الرأي العام في ساعات، بل دقائق معدوات، حيث بات من المعتاد أن تتحرك مشاعر وأحاسيس الملايين في منطقة أو دولة ما باتجاه حدث أو شخص معين، ويصبح هذا الحدث أو الشخص محور الاهتمام، سلباً وايجاباً، ويصبح الجدل والتفاعل ـ السلبي أو الايجابي وبغض النظر عن معايير السلبية والايجابية ـ مع هذا الحدث أو الشخص قوة دفع وورقة ضغط هائلة تهز كيان الدول والمؤسسات والحكومات.
منذ سنوات قلائل، كان السؤال الأهم في النقاشات الاعلامية يتعلق بمستقبل الصحافة الورقية، وهل تستطيع مزاحمة نظيرتها الالكترونية والبقاء على قيد الحياة، أم تتراجع تاركة الساحة للتفاعل الاعلامي الالكتروني؟ وهل لا تزال وظيفة الصحفي على حالها أم ستشهد مزيداً من التغيرات تحت ضغط ما يعرف بصحافة "المواطن" بعد تحول مؤات الملايين من البشر حول العالم إلى إعلاميين، بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن من بين هؤلاء من بات يمتلك "حسابات" وصفحات يتجاوز متابعيها عدد قراء أشهر الصحف العالمية!!
ومنذ عقود مضت كانت الصحافة تسمى بالسلطة الرابعة، ثم تناولت الأدبيات الغربية ما يعرف بالسلطة الخامسة، التي ارتبطت بالاعلام أيضاً في كثير من النقاشات المتخصصة، حيث اعتبرت تعبيراً عن سلطة وسائل التواصل الاجتماعي، فيما وسّع آخرون الدائرة المفاهيمية، وأطلقوها على النشر الالكتروني بشكل عام، وهناك بطبيعة الحال توصيفات أخرى عديدة لهذه السلطة الافتراضية.
وباعتقادي الشخصي، أن الصورة باتت سلطة بحد ذاتها بغض النظر عن ترتيبها ضمن البناء الهرمي التقليدي لسلطات المجتمع، فالصورة باتت تهمين على الاعلام ذاته، واختزلت الاعلام في آليات تداولها وتناقلها، وباتت هي السيد الأوحد المعبر عن المواقف والاتجاهات والآراء.
وفي ظل هذه الهيمنة للصورة، يصبح من البديهي أن تتعرض هذه الأداة الفعالة للتلاعب باستخدام التقنيات، ويصبح من البديهي أن يتم تناقل صور محرفة أو مزورة أو خضعت لعمليات تغيير فنية دقيقة، أو حتى الزج بصور قديمة في مناسبات آنية، مثلما يحدث أحياناً كثيرة في بعض الدول العربية.
المهم أن الصراع الاعلامي الذي يهدف للسيطرة على المشهد وبالتالي امتلاك ناصية الرأي العام، انتقل إلى صراع على الصورة، باعتبارها محور التأثير وموجه بوصلة العواطف الجماهيرية المتحفزة لتلقي المؤثرات البصرية.
ما أقصده أن الاعلام يشهد تحولات متسارعة للغاية، ومن الصعب النظر إلى الاعلام من زاوية الماضي، أو حصر الرؤية في إطار محدد ربما يحجب الكثير من التأثيرات والتفاعلات التي لا يستطيع أحد التصدي لها أو إنكار حدوثها، لاسيما في ظل صعوبة بناء جدر عازلة حول المجتمعات والدول في القرن الحادي والعشرين.
والمشهد الآن بات مختزلا في المعادلة التالية: من يملك الصورة يملك بوصلة الرأي العام في مواقف كثيرة! وهنا يجب الانتباه إلى أن الصورة ليست في كل الأحوال حقيقية ولا واقعية، بل يمكن افتعالها وتخليقها في مختبرات "الفوتوشوب"، ولا أحد يدقق ولا أحد ينتظر من يريد أن يدقق، فالكل ماضون متابعون، معلقون، إما سلباً أو ايجاباً، طوفان بشري هادر يمضي وراء من يضع البصمة الأولى، والفعل الأول، وضغط الزر الأولى.