يعتبر النظام السوري أن عملية طرد الارهابيين من مدينة حلب أبرز مراحل الصراع في البلاد، مشيرا إلى "نصر كبير" تحقق في هذه المدينة، بل وصف الرئيس الأسد ما حدث بأنه "لحظة كتابة للتاريخ"، وشبّه تحرير المدينة بالأحداث الكبرى في العالم كسقوط الاتحاد السوفيتي والحربين العالميتين، قائلًا «إن الزمن يتحوّل إلى تاريخ عندما تحوّله الأحداث الكبرى في العالم».
والحقيقة أن أي انتصار ضد تنظيمات الإرهاب هو في حقيقة الأمر انتصار للإنسانية وللقيم الحضارية والدينية معًا، فهذه التنظيمات تسببت في كوارث مفجعة في المدن السورية والعراقية، ولكن للموضوعية والضمير والمبادئ الإنسانية نقول أيضًا إن النظام السوري ليس بريئًا هو الآخر من دماء السوريين، فهو من ضحى بشعبه، واعترف ضمنًا بأنه استخدام أسلحة محظورة دوليًا ضد هذا الشعب الآمن العريق، ولا يزال هذا النظام يفعل كل محظور وينتهك كل ما هو محرم من أجل ما يراه في مصلحة دولة عريقة أسهم هو نفسه في غيابها واقعيًا عن خارطة العالم.
ولأنني لست من دعاة البكاء على اللبن المسكوب، اعتقد أن الوقت قد حان للتعامل بحكمة وعقلانية مع أزمة هذا الشعب العربي، الذي خذلناه جميعًا، فالعرب والعالم أجمع خذلوا سوريا والسوريين، وتشرد أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح ولاجىء في شتات الأرض.
ما حدث في سوريا حتى الآن يوفر لنا دروسًا مهمة علينا استنتاجها لبناء رؤية محددة حيال المستقبل المنظور للأزمة، فنحن أولًا بصدد فشل ذريع وغياب تام للدبلوماسية الأوروبية في معالجة هذه الأزمة التي اندلعت في بلد طالما اعتبرته أوروبا في قلب مربع مصالحها الاستراتيجية بالشرق الأوسط، والكارثة أن أوروبا لم تكتفِ بالفشل في هذا الملف بل أخفقت أيضًا في بلورة سياسة خارجية، موحدة أو متباينة، بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية!!
البعد الآخر في التطورات الأخيرة بسوريا، أن هزيمة الارهاب ودحره في أي مكان، كما قلت، هو ربح للانسانية جمعاء، ولكن لنعترف أن تحرير حلب يعزز موقف النظام السوري، الذي ظلم شعبه في هذا الصراع الغاشم، ولكن ما كسبه الأسد في حلب خسر بمقابله في مدينة أخرى لا تقل أهمية.
فلابد من الإشارة إلى أن انتصار الجيش السوري في حلب ليس نصرًا كاملًا في مختلف أرجاء البلاد، حيث توازت معه هزيمة لا يستهان بها تعرضت لها قوات الجيش السوري، والميلشيات التي تؤازرها في ريف حمص الشرقي، وتحديدا في تدمر، التي كانت القوات السورية قد استعادتها في مارس الماضي بدعم روسي قوي أيضًا، لكن الجيش السوري تخلى عن السيطرة على هذه المدينة الأثرية وتراجع إلى خطوط دفاعية خلفية حيث تمكن مسلحو تنظيم "داعش" الارهابي من السيطرة عليها كليا. ولم يكتف مسلحو التنظيم من السيطرة على تدمر، بل توسعوا على محور آخر يستهدف مطار "تي فور" الذي يعتبر أبرز قاعدة جوية وسط سوريا، حيث باتت "داعش" على بعد نحو سبعة كيلومترات من المطار.
الواضح أن على حلب الضحية أن تنتظر في ذروة برد الشتاء حتى يتسلم الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مهامه الرئاسية في العشرين من يناير المقبل، فالإدارة الأمريكية الحالية تلملم أوراقها، وتستعد للرحيل، ولن تجازف بالاتفاق على خطوات جوهرية في أزمة ظلت مكتوفة الأيدي أمامها طيلة سنوات أربع مضت، وكلنا يعلم أن الرئيس ترامب يتبنى سياسة مغايرة لسلفه في الملف السوري، وتحديدًا في يخص مواجهة الإرهاب ووقف تدفق السلاح إلى الجماعات الارهابية، وهذا الأمر قد يحدث تحولًا في موازين القوى السائدة على الأرض، ولو أخذنا بالاعتبار وجود احتمالية عالية لوصول فرانسوا فيون إلى رئاسة فرنسا، سنجد أن هناك تحولات أخرى كبيرة في الأفق السياسي، حيث تعهد فيون بإعادة العلاقات مع النظام السوري، والاصطفاف إلى جانب سياسات بوتين ـ ترامب.
المقترحات والحلول المطروحة على بساط البحث في الدوائر الغربية والروسية تتمحور في أغلبها حول تنفيذ خطة إنشاء مناطق آمنة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، بحيث تكون هذه المناطق تحت حماية قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، في ما يعتبر مقدمة لفيدرالية أمر واقع، ما يفتح الباب أمام احتمالية استمرار الحرب لسنوات أخرى قادمة، وكان الرئيس ترامب قد أكد أن إدارته ستعمل على إنشاء مناطق آمنة في سوريا لحماية المدنيين من قصف قوات النظام وحلفائه، والتي أسفرت عن استشهاد أكثر من 500 ألف مدني منذ بداية الصراع في سويا في 2011.
خطة إنشاء مناطق آمنة هي خطة مطروحة منذ عام 2011 وسبق أن رفضتها إدارة أوباما بدعوى الصعوبات الكبيرة التي ستواجه إنشاء تلك المناطق الآمنة، والعودة إليها في إدارة ترامب تعني ضياع أربع سنوات كاملة بما تعنيه من دماء سفكت وملايين تشردوا ومدن دمرت وخربت، ولكن المثير في حديث ترامب عن هذه المناطق أنه ينوي، بحسب تصريحات منشورة له، انشائها على نفقة الدول التي تدعم المعارضة في سوريا، ولم يفسر أو يحدد هوية تلك الدول، وهذا يعني أن هذه الدول أمام مشكلة حقيقية لأن الموافقة على تحمل الأعباء المالية ليست سوى اعتراف رسمي بالتورط في دعم الارهاب، وهو ما قد يستغل لاحقًا في مقاضاة قادة هذه الدول أمام الجنائية الدولية.
الأزمة السورية حبلى بما هو كارثي خلال المدى المنظور، فهل يفيق المجتمع الدولي وينتصر للقيم الانسانية ولو مرة واحدة؟ وهل ينتبه الجميع إلى تأثير ما يحدث في حلب وغيرها على الظاهرة الإرهابية؟!!
الدبلوماسية العربية نائمة، والإمارات تبذل ما في وسعها بحثًا عن حل سياسي وتدعم بقوة جهود الإغاثة الانسانية للشعب السوري الشقيق، ولكن يد واحدة لا تصفق، وعلى العرب جميعًا، أو ما تبقى منهم من دول على الأقل، أن يدركوا خطورة ضياع سيناريو وما يحاك لها من خطط للتقسيم والتفتيت.