هناك اتفاق على نطاق واسع على أن المؤتمر العالمي للسلام الذي عقده الأزهر الشريف مؤخرًا كان خطوة مهمة على مسارات عدة منها ما يتصل بالعلاقة بين الإسلام والمسيحية، أو بالفصل بين الإسلام والإرهاب.
التقاء رمزي العالم الإسلامي والمسيحي، شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، على أرض مصر خلال المؤتمر ينطوي على رسالة سلام مهمة للعالم أجمع، ويجب ألا تمر مرور الكرام، وأن يتواصل الحوار بين الأزهر والفاتيكان من أجل تفويت الفرصة على تجار الحروب ومدبري الفتن والمؤامرات.
حوار الأديان والتقريب بينها هو البوابة الحتمية لنسف زاعم المتطرفين وتنظيمات الإرهاب، وبناء أجيال جديدة تتشبع فكر التسامح والاعتدال والحوار، ولدينا فرصة ثمينة بوجود قامتين دينتين تؤمنان بأهمية هذا الحوار وضرورة التقارب بين الأديان والثقافات، ولديهما هدف مشترك هو إحلال السلام في العالم.
بابا الفاتيكان، الذي يوصف من جانب الخبراء والمتخصصين في العالم، بأنه البابا الأكثر تقدمية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، قادر، بما يمتلك من كاريزما وسعة أفق وقيم متجذرة تجعل منه مدافعًا قويًا عن العدالة والإنسانية ونابذا للاحتراب الحضاري والثقافي، قادر على قيادة العالم الغربي وانتشاله من منزلق "الإسلاموفوبيا"، الذي يتفشى تدريجيًا في مناطق ودول شتى من الغرب. وفي المقابل هناك شيخ الأزهر، العالم الوقور، والمفكر الفيلسوف المستنير، يمتلك رؤية دينية منفتحة ورغبة قوية في نشر الاعتدال ومحاربة التطرف والتصدي لأفكاره، مع الحفاظ على القيم الأصيلة للهوية الدينية للعالم الإسلامي، وهو شريك حقيقي لكل باحث عن السلام في هذا العالم.
ولقد وضع شيخ الأزهر في كلمتي الافتتاح والختام، اللتان القاهما في المؤتمر العالمي للسلام أساسًا قويًا يمكن البناء عليه لحوارات مستقبلية جادة تستهدف بناء جبهة مشتركة قوية ضد مروجي نظرية صراع الثقافات والحضارات، فقد أوضح للجميع أن الإسلام يؤكد على الاختلاف، كحقيقة لا مناص عنها ولا فكاك منها، بين البشر، سواء كان ذلك اختلافًا في الدين أو العرق أو اللغة أو اللون أو غير ذلك كله، مسلطًا الضوء بشكل قوي على نفي الإكراه في الدين وحرية الاعتقاد باعتباره إحدى مسلمات وثوابت الدين الإسلامي.
إن العالم لا يتحمل في الوقت الراهن حروبًا وصراعات دينية، في ظل وجود كم هائل من أسباب الصراع والاحتراب بين البشر، وظهور مسببات جديدة للصراع مثل التغير المناخي وما يسببه من ظواهر مدمرة للبيئة تدفع الكثير من البشر للهجرة واللجوء، ناهيك عن فقر المياه والجوع وغير ذلك من جذور صراعات محتملة في مناطق شتى من العالم. ولو أضفنا إلى ذلك التقدم الحاصل في صناعات التسلح والدمار، لأدركنا بسهولة أن أي صراعات دينية قد تفرز أضعاف الخسائر البشرية الناجمة عن الحروب الدينية طيلة التاريخ الإنساني.
علينا أن نعترف ونقر بأن إحدى أهم أسباب تصاعد خطر الفكر المتطرف وتنظيماته العشوائية، يكمن في تقليص دور المؤسسات الدينية المعتدلة وتشوهها طيلة عقود وسنوات مضت، وبمعنى آخر أننا ندفع ضريبة الصراع بين التيارات الفكرية طيلة حقبة زمنية طويلة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تركت الساحة الثقافية لأفكار نالت من الصورة النمطية لمؤسسات معتدلة مثل الأزهر الشريف، عبر السينما والتلفزيون، وتحول رجل الدين إلى رمز للسخرية والازدراء في كثير من الأفلام والمسلسلات، ما نسف مصداقية هذه المؤسسات ومنح فرصة ثمينة للمتشددين لاعتلاء المنابر وغسل الأدمغة وشغل فراغ العقول والقلوب، الناتج عن انحسار الثقة والمصداقية في الخطاب الديني الرسمي.
علينا أن ننتبه الآن لأن هناك محاولات مستمرة لشن هجمات "فكرية" ولا أقول دينية ضد بعض رموز الإسلام مثل الأزهر الشريف، فهناك تيارات معادية للدين ودوره في الحياة بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وهذا الأمر في غاية الخطورة، لأن استغلال ممارسات الإرهاب لمحاولة إبعاد الناس عن الدين بشكل كامل هي فكرة مدمرة بل أكبر خدمة للإرهاب والإرهابيين، ولو افترضنا سلامة نية أصحابها لقلنا إنهم كالدبة التي قتلت صاحبها!
إن أمامنا فرصة مثالية لاستغلال زخم مؤتمر السلام الأخير في مواصلة بناء جسور الحوار بين الإسلام والمسيحية، ونشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار، فشعوبنا بخير ولا تزال تتسم بقدر هائل من الوسطية والتسامح، وليس على ذلك دليل وبرهان أكبر من الترحيب الشعبي، الذي ناله البابا فرانسيس خلال زيارته لمصر الشقيقة، فقد كانت هناك أجواء ترحيب واحتفاء حقيقية، كان يمكن بسهولة تلمسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يقلل هذا من كون مصر هي حصن الإسلام الحصين، بل تزيدها رسوخًا كواحة وملتقى للثقافات والحضارات ورمز تاريخي للاعتدال والوسطية والتعايش.