لم تكن قمة قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي انعقدت مؤخراً، في الرياض، كغيرها من قمم المجلس السابقة، فقد عقدت وسط ظروف إقليمية ودولية معقدة، حيث سبق القمة تكهنات سياسية عديدة حول مستقبل المجلس واستمراره ونتائج القمة وما يمكن أن تسفر عنه، لاسيما على صعيد ما وصفه البعض بالمصالحة مع النظام القطري، الذي لا يترك أي فرصة للنيل من منظومات العمل الخليجي والعربي المشترك، إلا ويسعى لتمزيقها تحقيقاً لأهداف ومطامع القوى الإقليمية التوسعية، التي آثر أن يتحالف معها، ويصطف إلى جانبها رغم ما يبدو لكل ذي بصيرة من نوايا هذه القوى والأنظمة التي لا تضمر سوى الشر لدولنا وشعوبنا الخليجية.
اهم ما صدر عن قمة الرياض، برأيي، أنها خرجت ببيان قوي واضح يؤكد على قوة وتماسك المجلس ووحدة الصف بين أعضائه، ورغبتهم في المضي قدماً إلى الأمام بما يحقق تطلعات الشعوب الخليجية في خليج متماسك وأكثر وحدة وامنا واستقراراً.
وقد تضمن البيان الختامي نقاطاً مهمة عدة أولها التأكيد على موقف دول المجلس حيال إيران، حيث أكد ضرورة التزامها بمبادئ حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة او التهديد بها ونبذ الطائفية، كما طالب القادة المجتمع الدولي باتخاذ خطوات أكثر فاعلية وجدية لمنع إيران من الحصول على قدرات نووية ووضع قيود أكثر صرامة على برنامجها للتسلح الصاروخي، كما أكد القادة ضرورة التوصل على حل سياسي للأزمة اليمينة وفقا للمرجعيات الثلاث، وعبروا عن دعمهم لجهود المبعوث الدولي الخاص للأمين العام للأمم المتحد مارتن غريفيث، للتوصل إلى حل سياسي، كما أكد البيان مواقف دول المجلس حيال القضية الفلسطينية ودعم حل الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين وفق مبادرة السلام العربية والمرجعيات الدولية.
وكان من أبرز ما أكد عليه قادة دول المجلس فكرة "البيت الخليجي الواحد" وأن أي ازمة لابد وان تحل ويتم التعامل معها في هذا الإطار، وبالتالي فإن سعي النظام القطري للاستقواء بأنظمة ودول أخرى لا مجال له ولا فرص من النجاح، وهذا ما أدركته الدوحة بجلاء وتهرب أميرها من الحضور خشية ان يجد نفسه في مواجهة التزامات واستحقاقات التعاون بين أعضاء الأسرة الخليجية الواحدة.
يدرك أمير قطر من البداية أن حضوره للرياض وأهدافه لم تعد تتماشى مع مشتركات دول مجلس التعاون، فالدول الخمس التي قدمت دعمها القوي للمملكة العربية السعودية وموقفها في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي لن تكون على توافق مع رغبات النظام القطري وميله لاستغلال هذه القضية وتوظيفها سياسياً من اجل النيل من القيادة السعودية ومكانة هذا البلد الشقيق، فقد سعت قطر، ولا تزال، عبر أذرعها الإعلامية والتمويلية إلى حشد وتعبئة بعض وسائل الاعلام الغربي ضد ولي العهد السعودي، ورغم أن الاهتمام بالقضية قد انحسر في الغرب، سواء بفعل مضي المملكة الشقيقة في محاسبة المسؤولين عنها ومحاكمتهم جنائياً، أو لأن القضية كانت قد أخذت بالفعل ماهو أكبر من حجمها الإعلامي والسياسي، ومن ثم فقد انتقلت بؤرة الاهتمام تلقائياً إلى قضايا أخطر واهم مثل احتجاجات "السترات الصفراء" التي تشهدها دولة كبرى مثل فرنسا، وغير ذلك من أحداث عالمية تأخذ حقها الطبيعي من الاهتمام والمتابعة الإعلامية الدولية، ورغم ذلك فإن "الجزيرة" وتوابعها من قنوات تنظيمات الإرهاب في تركيا لا تزال تحاول تسليط الضوء على قضية خاشقجي رغم أنها لا تجد مادة إعلامية مقنعة لذلك، وتتعمد اجترار اخبار وتقارير قديمة واستخدام أسلوب التحليل بالتمنى في تفسير بعض التطورات والتقارير الواردة من العواصم الغربية بشأن هذه القضية!
لم تكن قمة الرياض "إعلان وفاة" ضمني لمجلس التعاون كما كانت تتمنى قطر وحلفائها، وكما صرح بعض الحاقدين بذلك علناً عبر فضائيات مختلفة، بل نجحت القمة في منح المنظومة الخليجية قوة دفع جديدة عبر الاتفاق على أمرين مهمين ، أولهما التمسك بمجلس التعاون الخليجي لمواجهة تحديات المنطقة، وثانيهما استكمال البرامج والمشروعات الخاصة بتعزيز التكامل بين دول المجلس، حيث اتفق القادة على وضع خريطة طريق تشمل تفعيل الإجراءات اللازمة لتحقيق رؤية القادة بتحقيق التكامل بين دول المجلس، ووضع الأسس لتأطير وتنظيم علاقات الدول الأعضاء مع المجتمع الدولي، كما وجه القادة بالالتزام الدقيق بالبرامج الزمنية التي تم إقرارها لاستكمال خطوات التكامل الاقتصادي بين دول المجلس والتطبيق الشامل لبنود الاتفاقية الاقتصادية وإزالة كافة العقبات والصعوبات التي تواجه تنفيذ قرارات العمل المشترك، وعلى وجه الخصوص تذليل عقبات استكمال متطلبات السوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي وإصدار الأنظمة التشريعية اللازمة لذلك بهدف تحقيق الوحدة الاقتصادية بين دول المجلس بحلول عام 2025.
هناك أيضا توافق واتفاق بين القادة في المجال الدفاعي المشترك وتوجيه بسرعة انجاز الإجراءات الخاصة بتفعيل القيادة العسكرية الموحدة ومباشرتها لمهامها وانشاء الاكاديمية الخليجية للدراسات الاستراتيجية والأمنية.
إنجازات كثيرة حصدتها قمة الرياض رغم محاولات التشويش على نجاحها وقدرة المجلس على البقاء والتماسك، ولتثبت هذه المنظومة الخليجية قوتها، وأن قرار أمير قطر عدم المشاركة رغم تلقيه دعوة لذلك، إنما يمثل قرار عزل ذاتي وبمحض الإرادة لدولة لم يكن أي خليجي يتمنى أن تنزلق قيادتها لتكريس فكرة عزل الأشقاء القطريين عن بقية شعوب مجلس التعاون تحقيقاً لرغبة واهداف القيادة القطرية التي لا تستوعب دروس الماضي والحاضر، وتراهن على من لا يكنون لنا جميعاً سوى الحقد والشر.