حسناً فعلت دولة الامارات حين أوضحت موقفها الرسمي من محاولات الزج باسمها في الصراع الانتخابي داخل إسرائيل، وذلك على خلفية الاعلان عن عزمها الاستثمار في قطاعات اقتصادية حيوية هناك، فالاستثمارات الضخمة ـ كما هو حال الاستثمارات الاماراتية سواء في إسرائيل او غيرها من دول العالم ـ تتحرك وفق دراسات جدوى اقتصادية بحتة ودقيقة للغاية، فرؤوس الأموال لا يمكن أن تحركها الأهواء والعلاقات السياسية مع أفراد أو كيانات حزبية أو سياسية، والاستثمارات ـ ولا سيما الضخمة ـ تبحث دائماً عن فرص استثمارية ومنافع مشتركة لأصحابها ـ سواء كانوا أفراداً (رجال أعمال) أو استثمارات حكومية ـ وللدول والشعوب الأخرى أيضاً، لذا يلاحظ أنإعلان دولة الامارات أوائل شهر مارس الماضي قد جاء محدداً بدقة وأشار إلى إنشاء صندوق استثماري 10 مليارات دولار يستهدف الاستثمار في قطاعات استراتيجية في إسرائيل تشمل الطاقة والتصنيع والمياه والفضاء والرعاية الصحية والتكنولوجيا الزراعية وغيرها، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أبعاد سياسية أو علاقة لقيادات بهذه الخطوة.
المسألة إذاّ لا تعكس دعماً سياسياً لشخصية أو شخصيات تخوض منافسة انتخابية يحسم نتائجها الناخب الاسرائيلي، بل تعبر عن توجه دولة تقيم علاقات مع دولة أخرى وشعب آخر، وليس للأمر علاقة بالسياسة والمنافسات الحزبية والسياسية داخل اسرائيل، فالامارات التي تبني روابط قوية مع الشعوب، هي من تؤمن بأن التنمية هي خير وسيلة لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام، وأن المصالح المشتركة وضمان رفاه الشعوب هو حائط الصد الحقيقي ضد الكراهية والعنف والحقد والعداوات بين البشر. وعندما تقرر دولة الامارات انشاء صندوق استثماري يستهدف دراسة احتمالات الاستثمار في اسرائيل والفرص المتاحة لذلك، فإن هذا يعني دراسة الفرص وتقييم جدواها، وذلك انطلاقاً من ان الامارات هي قوة اقتصادية نشطة عالمياً في مجال الاستثمار، فالامارات تتبنى استراتيجيات التنوع والتنويع والاستفادة من الفرص والخبرات والتطور العلمي والتقني والاقتصادي والتجاري في العالم شرقاً وغرباً، لذا نجد هذا الانتشار والتوسع التجاري والاستثماري الاماراتي على خارطة العالم، وتؤكد الاحصاءات أن دولة الامارات تصنف ضمن المستثمرين الأكثر نشاطاً في العالم، إذ تصل حجم الاستثمارات الإماراتية في الخارج إلى 1.5 تريليون دولار (5.5 تريليون درهم)، يستحوذ جهاز أبوظبي للاستثمار على نحو 53% منها باستثمارات تصل إلى 800 مليار دولار، في حين تبلغ استثمارات شركة "مبادلة" للاستثمار نحو 220 مليار دولار، إلى جانب استثمارات بقيمة 100 مليار دولار لمؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية، فيما تتوزع الاستثمارات الأخرى ما بين الشركات الحكومية، والقطاع الخاص والشركات العائلية، بحسب مجلس الإمارات للمستثمرين في الخارج. وتشير هذه الاحصاءات إلى ان الدول العربية تستضيف استثمارات اماراتية هائلة، ففي المملكة العربية السعودية هناك استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار ، وهناك استثمارات تقدر بأكثر من سبعة مليارات دولار في مصر، و15 مليار دولار في الأردن، 10 مليارات دولار في الجزائر، 15 مليار دولار في المغرب، إلى جانب استثمارات أخرى كبيرة في السودان وموريتانيا وعمان، وغيرها من الدول العربية، وهناك كذلك استثمارات ضخمة في القارة الآسيوية حيث تستقطب الهند استثمارات إماراتية إجمالية بقيمة 10 مليارات دولار، إلى جانب استثمارات كبرى في الصين وكوريا الجنوبية. وبالتالي فالخارطة الانتشار الاستثماري الاماراتي عالمياً واضحة وتجوب الدول شرقاً وغرباً بحثاً عن فرص واعدة، تسهم في تطور القوة الاقتصادية الاماراتية، وتعزز قدرات الامارات التكنولوجية والتقنية والتجارية وتسهم كذلك في تحقيق عوائد أخرى مهمة للغاية مثل توفير فرص العمل لأبناء الشعوب الأخرى، والحد من الفقر والبطالة والعوز، وتصب في خانة دعم التنمية الوطنية بالدول كافة، وهذه في مجملها جوانب وأهداف تعكس مبادىء الامارات وقيمها الاخلاقية والانسانية.
في ضوء ماسبق، يصبح من البديهي أن تعلن دولة الامارات، على لسان الدكتور سلطان الجابر وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة في دولة الامارات، أن هذه الاستثمارات لا تزال قيد الدراسة وأن الأمر يخضع لتقييمات ودراسات جدوى تحدد توجه أي استثمارات بناء على البيئة الاستثمارية والقانونية والتشريعية في الدول الجاذبة للاستثمارات؛ فالامارات بشكل عام اعتادت منذ تأسيسها على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أن يكون استثمارها الاهم في العلاقات مع الشعوب، باعتبارها الأبقى والأهم في معادلات العلاقات الدولية، ولهذا الأمر حصاده المستدام في الصورة الذهنية ناصعة البياض والسمعة الطيبة التي تتمتع بها الدولة لدى مختلف شعوب العالم، والقيادة الرشيدة في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ وأخبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، شديدة الحرص على استمرارية المبادىء والقيم التي تميز السياسة الخارجية للدولة منذ التأسيس، باعتبارها ركيزة من ركائز تميز النموذج الاماراتي اقليمياً ودولياً، لذلك فإن من الصعب أن تزج الامارات بنفسها واسمها في أي عملية انتخابية، بغض النظر عن أي حسابات سياسية أو آراء شخصية، لأنها ترى في ذلك جزءاً من احترامها وتقديرها لإرادة الشعوب الأخرى، وإيمانها الراسخ بأن التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري يستهدف بناء أسس قوية للسلام والأمن والازدهار، وهذا الأمر ينطبق بشكل خاص على اسرائيل، التي تسعى الامارات لتشجيعها على تبني خطوات استراتيجية مهمة لتحقيق السلام وضمان الأمن وانهاء الصراع التاريخي مع الفلسطينيين والعرب.