جاءت مبادرة السلام التي طرحتها المملكة العربية السعودية لإنهاء الصراع في اليمن بمنزلة موقف كاشف للحقائق والمواقف، فرغم حملة الدعم والترحيب الدولي الواسع بهذه المبادرة، فقد جاء الرفض الحوثي مخيباً لآمال الكثيرين، ومؤكداً وفاضحاً لعلاقات التبعية والولاء التي تربط هذه الجماعة بنظام الملالي الإيراني، الذي لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي الآن، ولاسيما من خلال مبادرة سعودية تضع مصلحة الشعب اليمني فوق أي اعتبار آخر.
وإذا كان هناك من يتشكك في علاقة التبعية هذه، فعلية قراءة تصريحات السفير الإيراني لدى الحوثيين في صنعاء، حسن إيرلو، الذي سارع بالتعليق عبر موقع «تويتر» قائلاً إن مبادرة السعودية بشأن اليمن «مشروع حرب دائمة» و»استمرار الاحتلال» وليس إنهاء للحرب، وأضاف أن «المبادرة الحقيقية» يجب أن تشمل «وقف الحرب بشكل كامل ورفع الحصار بشكل كامل وإنهاء الاحتلال السعودي وسحب قواته العسكرية وعدم دعم المرتزقة والتكفيريين بالمال والأسلحة»، إضافة إلى «حوار سياسي بين اليمنيين دون أي تدخلات خارجية»، وهكذا يبدو الأمر وكأنه شروط إيرانية دقيقة ومفصلة تملى على الحوثي وجماعته، وهو أمر يتجاوز فيه السفير الإيراني دوره الدبلوماسي ويعتدي على سيادة دولة أخرى ويتدخل في شؤونها بشكل فج ووقح، ولكنه يعلم قبل أن يكتب أنه يتحرك في إطار المساحة المتفق عليها بين التابع والمتبوع، وأن «شروطه» التي يجاهر بها ليست سوى قيد معلن يكبل يد الحوثي عن تبني أي موقف عدا ما يملى عليه من طهران.
لم يترك السفير الإيراني لدى الحوثيين إذاً أي فرصة للحوثيين كي يحددوا موقفهم، كما لم يتوار عن الأنظار حتى لا تتكشف علاقات التبعية بشكل أكبر مما هو معروف، فآثر الحديث بالتفصيل عن وجهة نظر ملالي إيران وشروطهم لتسوية الأزمة رغم أن الخارجية الإيرانية قد أعلنت رسمياً عن دعم طهران لأي مبادرة سلام تشمل «إنهاء العدوان» دون الخوض في التفاصيل ويبدو أنها تركت هذه المهمة لسفيرها لدى الحوثيين في صنعاء.
والحقيقة التي لا جدال فيها أن المبادرة السعودية تعكس رغبة حقيقية من جانب المملكة في إنهاء هذه الأزمة، حيث تشمل وقف إطلاق النار في أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة وتخفيف حصار ميناء الحديدة، والسماح بإعادة فتح مطار صنعاء لعدد محدد من الوجهات الإقليمية والدولية المباشرة إلى جانب إعادة إطلاق المحادثات السياسية لإنهاء أزمة اليمن؛ ولكن المعضلة الواضحة لا تكمن في بنود هذه المبادرة أو أي مبادرة أخرى لتسوية هذه الأزمة، بل تكمن في موقف ملالي إيران الذين يريدون الاحتفاظ بنفوذهم بالوكالة في اليمن كورقة يتم توظيفها عند الجلوس على مائدة التفاوض مع القوى الكبرى لمناقشة الملفات المرتبطة بالدور الإقليمي الإيراني وخاصة في موضوع المفاعل النووي. ولذا يعتقد الملالي أن «تبريد» الأزمة اليمنية في الوقت الراهن ليس في مصلحتهم تماماً، بل العكس هو الصحيح، فالمطلوب إيرانياً هو «تسخين» الجبهة اليمنية من أجل زيادة الضغط ليس فقط على المملكة العربية السعودية، ولكن على حلفائها الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة للإسراع بالاستجابة للشروط الإيرانية المرتبطة بملف أزمة الاتفاق النووي، وفي مقدمتها رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
موقف الحوثي برفض المبادرة السعودية يعاكس تماماً الجهد الأمريكي بشأن تشجيع هذه الجماعة على الانخراط بجدية في جهود تسوية الأزمة اليمنية، إثر رفع اسم جماعة الحوثي من قوائم الإرهاب الأمريكية، وهو ما يؤكد أن مفتاح تسوية الأزمة اليمنية موجود في طهران وليس في صنعاء، فالحوار مع «الوكيل» أو منحه المزيد من «الحوافز» لن يحقق الهدف المرجو كونه لا يمتلك سلطة القرار والحل والعقد، لذا فإن القوى الكبرى يجب أن تتحمل مسؤوليتها في التصدي لهذا التهديد الإيراني بالوكالة لأمن المملكة العربية السعودية وسيادتها.
الشواهد تقول إن ربط موقف الحوثيين بما يصدر عن ملالي إيران لم يعد سراً، فالعضو الجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي جيم ريش ذكر في «تغريدة» دعا عبر موقع «تويتر» الحوثيين لإثبات جديتهم وجدية داعميهم الإيرانيين في تحقيق سلام ذي مغزى، ما يعني أن الجميع يدرك تماماً عمق ارتباط الحوثي بالاملاءات الإيرانية!
وتحليل الشواهد يؤكد أن الملالي يريدون للمملكة العربية السعودية أن تظل «عالقة في مستنقع حرب اليمن» على حد زعم المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، فالملالي يريدون أن يركز وكلاؤهم اليمنيون من جماعة الحوثي على إشغال المملكة بالحرب في اليمن، واستنزاف مواردها وزعزعة استقرارها وإظهار عدم قدرتها على الصمود في مواجهة ميلشيات يعرف الجميع مصدر تسليحها وتمويلها من ترسانات وخزائن الملالي، بما يصب في مصلحة إيران في إطار التنافس والصراع الإقليمي.
وقد كشفت كلمات خامنئي خلال احتفالات العام الفارسي الـ1400 بوضوح عن فلسفة الملالي في استمرار الصراع في اليمن، حيث بدا واضحاً أن خامئني يريد أن يثبت لأنصاره وجهة نظره الخاصة بفشل التحالفات القائمة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون، وأن مآلات الوضع الراهن في اليمن سببها الثقة بالولايات المتحدة التي زعم خامنئي أنها أعطت «الضوء الأخضر لبدء الحرب في اليمن» في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، حيث زعم خامنئي أن «القضية اليمنية وعجز الحكومة السعودية مثال على نتيجة الثقة بالولايات المتحدة من قبل حلفائها، وقال: «إن الأمريكيين لا يعرفون هذه المنطقة وشعوبها ودوما يرتكبون الأخطاء». وهذه المواقف الإيرانية الكاشفة لحجم ومستوى الخطر الذي يمثله نظام الملالي، تأتي في سياق سعي هذا النظام لتقويض الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، والسعي لتفكيك هذا التحالف وهدم أسسه بحيث ينتهي الأمر إلى انسحاب القوات الأمريكية من منطقة الخليج العربي بحسب تصورات الملالي والسيناريوهات التي يرسمونها!.
وقناعتي أن الأثر الأهم للمبادرة السعودية الشجاعة يكمن في أنها وضعت الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية، وفضحت زيف ادعاءات الحوثي بشأن الرغبة في تسوية الأزمة وانهاء الصراع، وكشفت للجميع عمالته وخضوعه لنظام الملالي الإيراني، وأظهرت حجم متاجرة الملالي بدماء اليمنيين والرغبة الدنيئة في ارتهان أمن واستقرار هذا البلد العربي العريق بمصالح نظام الملالي ومساوماته مع القوى الكبرى.
الخلاصة أن الكرة في هذه المبادرة كانت في ملعب الحوثيين لإثبات وطنيتهم ونفي تبعيتهم للملالي وقد سقطوا بجدارة في هذا الاختبار، ولكن الدرس الأهم بات لإدارة الرئيس بايدن كي تدرك أن مسؤولية إنهاء الحرب في اليمن الآن باتت في طهران التي تملي على الحوثيين قرارهم.