أدرك، وغيري كثيرين، لماذا اندفع اتحاد "علماء" الإخوان، المسمى بـ"اتحاد العلماء المسلمين" لإبداء رأيه في الأحداث السياسية الجارية في تونس تحديداً، مفتياً بـ "تحريم" ما وصفه بـ "الاعتداء على العقد الاجتماعي الذي تم بإرادة الشعب التونسي"، رغم أن ما حدث لا ينطبق عليه محتوى هذه "الفتوى" مطلقاً لأسباب واعتبارات عدة أولها أن القرارات التي اتخذت جاءت بعد عام كامل مع الجمود والشلل السياسي الذي تمخض في الأخير عن انهيار المنظومة الصحية في تونس، وتدهور الاقتصاد بشكل يعتقد الكثير من المتخصصين
والخبراء أنه يقترب من السيناريو اللبناني، بكل ما يعنيه ذلك من استفحال معدلات التضخم وتدهور قيمة العملة الوطنية واتساع دائرة البطالة والفقر وغير ذلك من المؤشرات السلبية بالغة الخطورة والتأثير. وثاني هذه الأسباب والاعتبارات أن القرارات اتخذت من جانب رئيس منتخب بإرادة الشعب التونسي، ويحظى بشرعية سياسية كاملة تؤهله لاتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة مجموع الشعب التونسي الذي أئتمنه على إدارة شؤون البلاد خلال مدة رئاسته، بل إن تقاعسه عن تبني خطط وسياسات لانقاذ البلاد من الوضع المأزوم الذي آلت إليه هو المخالف تماماً للعقد الاجتماعي الذي تمت بموجبه الانتخابات الرئاسية، وبالتالي فتلميح اتحاد يفترض أنه "ديني" ناهيك عن كون أعضائه "علماء"، بشأن وجود "انقلاب" على الإرادة الشعبية أو غير ذلك من تخرصات هو مجرد ترديد لما يقوله إخوان تونس وقياداتهم التي تلاعبت بمقدرات ومصير الشعب التونسي منذ عام 2011 وحتى الآن، حيث كانت في صدارة السلطة أو تمثل جزءاً كبيراً منها ولم تفلح في انجاز أي من وعودها ولا حتى ضمان الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمن انتخبوها حتى تدنت شعبيتها في انتخابات عام 2019 بشكل واضح للعيان.
ثالث هذه الاعتبارات أن تدخل هذا الاتحاد بكل ما يحمله من "جينات" النشأة والتأسيس والتمويل حتى الآن، مكشوفة وواضحة للجميع وتعكس رغبة في دعم موقف "حركة النهضة" في موضوع سياسي يفترض أن الاتحاد، وهو مؤسسة دينية، أو هكذا يزعمون، ليس طرفاً فيه، لاسيما أن الأمر شأن داخلي تونسي لا علاقة لا للاتحاد ولا لغيره به، ولكن مواقف الاتحاد السابقة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه اتحاد خاص بعلماء ينتمون إلى فكر وأيديولوجية جماعة "الإخوان المسلمين"؛ ومن هذه المواقف دفاعه في نوفمبر الماضي صراحة عن الجماعة حين صدر بيان عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية اعتبرها "جماعة منحرفة ارهابية"، ورأى البيان أن هذه الجماعة "لا تمثل منهج الإسلام، وإنما تتبع أهدافها الحزبية المخالفة لهدي ديننا الحنيف، وتتستر بالدين وتمارس ما يخالفه من الفرقة وإثارة الفتنة والعنف والإرهاب"، وجاء رد ما يعرف بـ "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" في شكل دفاع صريح ومباشر عن الجماعة دون التطرق لأفكارها وأيديولوجيتها من الناحية الدينية، التي يفترض أن تكون مدخلاً لحدث العلماء في مثل هذه المواقف، حيث قالوا "جماعة الإخوان المسلمين، التي اتهمتموها بالانحراف والفتنة والإرهاب والمروق من الدين.. موجودة ومعروفة في كل أنحاء العالم، ولها في بلدكم خاصة، عشرات الآلاف من الأعضاء والمؤيدين، من السعوديين ومن الوافدين"! وكأن وجودها وانتشارها يعني مشروعيتها (!) ولو كان ذلك صحيحاً لأصبحت عصابات المافيا الموجودة والمنتشرة عالمياً وكذلك تنظيمات الارهاب تنظيمات مشروعة قانونياً وسياسياً، فالوجود ببساطة ليس مبرراً لشرعنة وجود الخطأ والصمت عليه!
يقول الاتحاد أيضاً مخاطباً علماء المملكة العربية السعودية إن "بيانكم التشهيري الأخير، أسخط عامة المسلمين، في بلدكم وفي كل أنحاء العالم، ولكنه أرضى عنكم كافة أعداء الإسلام والمسلمين، وعلى رأسهم دولة الاحتلال الصهيوني، التي عبرت عن تأييدها ورضاها عن نهجكم الجديد"، واللافت هنا أن الاتحاد يتحدث باسم عموم المسلمين رغم أنه لم يظهر أي إرادة ولم يصدر أي فتاوى في مواقف كثيرة تخص الاسلام والمسلمين، ولا تحركه سوى القضايا والموضوعات ذات الصلة بجماعات وتنظيمات الإخوان المسلمين ودول معينة مثل تركيا وقطر، واللافت كذلك أن الكثير من علماء هذا الاتحاد يقيمون في العاصمة القطرية، حيث يتردد مسؤولون وشخصيات اسرائيلية ويقطنون نفس الفنادق وربما الأدوار السكنية التي يقيم بها لا زالوا يتحدثون بهذه اللغة الخشبية، وهم ذاتهم من يعرفون تماماً أن أفرع من جماعتهم بدول أخرى تبارك "التطبيع" وتتحمس له طالما أنه السبيل للبقاء في كراسي الحكم!
أفتى "اتحاد علماء المسلمين" بحرمة ما وصفه بالاعتداء على العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الرئاسة ومجلس النواب والحكومة، وتحول هنا إلى التنظير السياسي، ويبدو أن هؤلاء العلماء لم يقرؤوا البيان الصادر عن رئيس الوزراء التونسي المُقال هشام المشيشي أصدر بياناً أعلن فيه تخليه عن منصبه وتسليمه إلى "الشخصية التي المسؤولية إلى الشخصية التي سيكلّفها السيّد رئيس الجمهورية لرئاسة الحكومة في كنف سنّة التّداول التي دأبت عليها بلادنا منذ الثورة وفي احترام للنّواميس الّتي تليق بالدولة"، واعترف صراحة في بيانه بتصاعد "التشنج السياسي" ووجود قطيعة بين المواطن والسياسيين، معرباً عن تفهمه "لحالة الاحتقان والشعور باليأس لدى أبناء وبنات تونس نتيجة التأخر الكبير في انجاز الاستحقاقات التي طال انتظارها"، ما يؤكد أن علماء "الإخوان" اصطفوا إلى جانب أبناء "عشيرتهم" دون النظر لخلفيات الأزمة وما آلت إليه أحوال الشعب التونسي في ظل قيادتهم للبرلمان وعرقلتهم لكل الخطط والسياسات، ناهيك عن أن هؤلاء العلماء لم يغضبوا لوفاة 17 ألف تونسي جراء تفشي جائحة "كورونا" وانهيار المنظومة الصحية في البلاد بسبب فشل السياسات، ولكنهم غضبوا وهبوا دفاعاً عن كراسي ومناصب أبناء "عشيرتهم"!
الجميع يعلم تماماً دوافع وخلفيات مواقف اتحاد "علماء" الإخوان في الكثير المواقف والمناسبات، ولكن موقفهم هذه المرة جاء مفضوحاً كاشفاً للأنانية العميقة والغضب الذي ملأ صدورهم جراء انكشاف أمر جماعتهم وفشلها السياسي المطلق، للبقية الباقية من الشعوب العربية.