لم يكن ينقص المشهد السياسي العربي من أزمات سوى واحدة جديدة، كالتي تسببت فيها تصريحات وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي حول الأزمة اليمنية! تطور هذه الأزمة وتبعاتها التي وصلت حد سحب السفراء يشير إلى أمور عدة أهمها عدم قدرة من يتولون مناصب سياسية في عالمنا العربي على الفصل بين "العام" و"الخاص" في مواقفهم، والأمر لا يقتصر على ذلك بل يصل حد المكابرة والعناد، الذي تسبب في توريط دولة بأكملها (لبنان) مع دولتين عربيتين هما من أكثر الداعمين سياسياً واقتصادياً لدولته، والأمر هنا لا يتعلق بمنّ ولا أذى كما قد يقفز البعض إلى اتهامي بذلك، لأن لبنان ليست دولة عادية في حسابات النظام الاقليمي العربي، بل دولة لها ثقل كبير وحضور وروابط تاريخية وشعبية عميقة مع حواضنها العربية الاقليمية، وبالتالي فالحديث عن لبنان وباسمها قد لا يشبه حديثاً آخر لأن للحالة اللبنانية خصوصيات استثنائية يعلمها جيداً كل من قارب الشأن اللبناني أو تعاطى معه.
لا أقول ماسبق من باب التمهيد لشىء أو لتوضيح شىء خفي، بل ربما لوضع الأمور في نصابها الصحيح، والتأكيد على أن أزمة التصريحات التي وردت على لسان وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي لم تؤثر سلباً على مناخ وأجواء العلاقات اللبنانية مع دول مجلس التعاون فقط، بل سحبت من رصيد انشغالات اللبنانيين وأولوياتهم الملحة لمصلحة قضية مهمة ولكنها كان يمكن أن تنتهي في اللحظة التي رأت فيها النور، لو توافرت الحكمة والقدرة على تقدير الأمور وقياس العواقب بما يفترض أن تكون عليه السياسة والسياسيين!
ربما تعود تصريحات قرداحي بالفعل إلى فترة ماقبل تعيينه في المنصب الوزاري، ولذا فإن توضيح هذه الحقيقة والتماهي مع المواقف الرسمية للدولة اللبنانية بحكم مقتضيات المنصب الوظيفي كان يمكن أن ينهي الأزمة قبل اشتعالها، ولكنني لا أدرى لماذا أصر السيد قرداحي على الفصل بين مواقفه الشخصية ومواقفه الرسمية في وقت بات يمثل فيه الدولة اللبنانية رسمياً، لاسيما أن الوزير قرداحي ليس وزيراً عادياً ولا يتولى وزارة عادية، فهو وزير للإعلام، أي متحدث رسمي للدولة والحكومة وأكثر من يستطيع التعبير عن مواقفها بدقة، فضلاً عن كونه شخص يمتلك الخبرة الكافية التي توفر له القدرة على فهم أبعاد المواقف ذات الطابع السياسي، ويعي جيداً ما وراء الكلمات والتعبيرات اللغوية ويدرك كذلك حساسية الدولة اللبنانية في نظرتها ومواقفها وسياساتها تجاه الملف اليمني تحديداً وحديثي هنا أقصد به التشابكات الداخلية اللبنانية والولاءات الخارجية التي تضفي هذه الخصوصية الشديدة على موقف لبنان ـ البلد العربي ـ تجاه ما يحدث في اليمن، لذا كان ينبغي عليه المبادرة فوراً لإزالة الاشتباك اللفظي الحاصل بين "الخاص" و"العام"، وتفادي إضافة إرباك جديد للساحة السياسية اللبنانية التي يكفيها ماتعانيه!
الحقيقة أن حديث قرداحي عن دفاع الحوثي عن نفسه "في وجه اعتداء خارجي" خال تماماً من الصواب ومجاف للحقيقة لأن التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية لم يذهب إلى اليمن للاعتداء على الحوثي وجماعته التي اعتدت على اليمن بأكمله وحاولت اختطافه لمصلحة أجندة توسعية لقوة اقليمية يعرف القاصي والداني ماذا كانت تريد ـ ولا تزال ـ من اليمن؟ وعلاقة الحوثي باليمن وحصوله على دعم وتمويل من الحرس الثوري الايراني لا تحتاج إلى شواهد ودلائل، وتكفي الاشارة إلى تصريحات وردت على لسان مساعد قائد فيلق القدس الإيراني للشؤون الاقتصادية، رستم قاسمي، خلال شهر أبريل الماضي، وقال فيها:"كل ما يملكه الحوثيون من أسلحة ومعدات عسكرية هو بفضل مساعدة إيران"، وزاد على ذلك بأن الحرس الثوري قدّم تدريبات عسكرية لميلشيات الحوثي! وهو اعتراف رسمي يؤكد استخدام طهران مليشيات الحوثي أداة لتنفيذ أجندتها التوسعية، ومحاولة الهيمنة على منطقة الخليج العربي من الشمال (حزب الله والميلشيات الطائفية في العراق وسوريا) ومن الجنوب (ميلشيا الحوثي).
لو أضفنا إلى ماسبق أن التحالف العربي قد شن عملية "عاصفة الحزم" في مارس 2015 بموجب استغاثة من الحكومة اليمنية الشرعية وبدعم عسكري وسياسي عربي واضح، للتصدي لمخطط جماعي الحوثي الهادف للسيطرة على مفاصل الدولة اليمنية تنفيذاً لمصلحة إيران، فإن المسألة إذن لا تتعلق بدفاع الحوثي عن النفس ولا باعتداء دول التحالف على الحوثي كما يعتقد السيد قرداحي، حيث يبدو نزع هذه الأحداث خارج سياقها السياسي والزمني بمنزلة خلط للأوراق وتلاعب بالمفاهيم والوقائع.
العواصم الخليجية التي شعرت بالاستياء من تصريحات قرداحي لم تتدخل في الشأن الداخلي اللبناني ولم تحاول المساس بسيادة بلد هي أكثر الداعمين لسيادته وصون كرامته، وكان يكفيها أن يبادر صاحبها لوأد الأزمة مبكراً بتوضيح أو رد سياسي مناسب، لا بمحاولة دغدغة العواطف واللعب على مشاعر شعب شقيق نعرف جميعاً مدى حساسيته الوطنية خصوصاً في الوقت الراهن.
الأغرب مما سبق أن قرداحي قد حاول في حديثه التهوين من شأن الخسائر والاضرار التي تترتب على انتهاكات الحوثي شبه اليومية بحق المملكة العربية السعودية وشعبها، والأهم أنه لم يكلف نفسه عناء التفكير في مبررات الرفض المتواصل لجماعة الحوثي لجميع جهود التسوية والمبادرات التي يطرحها الجانب السعودي أو الأمم المتحدة لإحلال الأمن والاستقرار في اليمن؛ فالواجب هنا أن يسأل المرء نفسه: ألا يفترض بمن يتعرض لاعتداءات أن يستجيب لجهود السلام ويتمسك بأي محاولة للحل ل أن يعرقل جهود الجميع ويضرب بالمبادرات كلها عرض الحائط متذرعاً بأسباب واهية ومراوغات مكشوفة؟! جواب هذا التساؤل معروفة لأن موقف الحوثي لا يرتبط بمعاناة الشعب اليمني ولا بالاضرار التي لحقت بالملايين جراء سلوك هذه الميلشيا المأجورة، بل بالحصول على ضوء أخضر إيراني للذهاب للتفاوض من عدمه، والملالي ـ ببساطة ـ يرتهنون اليمن لأجندة اقليمية أكبر ترتبط بتفاوضهم مع القوى الكبرى على دور إيران في المنطقة والشعب اليمني الذي يزعم الحوثي الدفاع عنه لا دور له في حسابات الملالي سوى كونه "أداة" ـ مع كل التقدير للأشقاء في اليمن ـ لتنفيذ هذا المخطط الآثم الذي يترجم بأيدي من يتاجرون ليل نهار بمصلحة ومعاناة ملايين اليمنيين.
أزمة تصريحات الوزير قرداحي لم تكن فقط مناسبة لفضح المواقف وكشف المزيد من الأوراق على الساحة اللبنانية، ولكنها كانت أيضاَ فرصة إضافية للمزايدة على سيادة دولة وشعب من جانب أكثر المنتهكين لهذه السيادة، ممن لا يكفون عن التباهي والتفاخر بالولاءات الخارجية والتبعية لولي الفقيه حتى وإن أدى ذلك إلى توريط لبنان وشعبه في صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.