حظي حديث سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي خلال قمة النقب التي عقدت مؤخراً، باهتمام واسع من المراقبين والخبراء حول العالم، ولاسيما تعبير سموه عن أسفه لضياع "الأعوام الثلاثة والأربعين" (منذ أبرمت مصر وإسرائيل معاهدة السلام) حيث قال "خسرنا على مدار هذه الأعوام معرفة بعضنا البعض بشكل أفضل والعمل معا، وتغيير السردية التي نشأت عليها أجيال من الإسرائيليين والعرب...ما نحاول بلوغه اليوم هو تغيير هذه السردية وخلق مستقبل مختلف"، وبالفعل يستحق هذا الحديث كل هذا الإهتمام ليس فقط لأنه يتسم بالشفافية والجرأة والمكاشفة والوضوح، ولكن أيضاً لأنه يخترق جدار الصمت ويرسم الطريق نحو بناء سلام إقليمي حقيقي، ويفصح عما يعجز الكثيرين عن البوح به.
ماتضمنه خطاب سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان خلال تلك القمة التاريخية هو حقائق ثابتة لا ينكرها أحد، فإسرائيل بالفعل هي جزء من منطقة الشرق الأوسط، وعدم فتح قنوات الإتصال بينها وبين العرب لا ينفي هذه الحقيقة ولا يعني أنها غير موجودة، ومن يقول بذلك يخادع نفسه والآخرين، وبالتالي فإن استمرار الرهان على شعارات الماضي ودغدغة المشاعر بخطاب "المقاومة" ليس سوى إستهانة بمعاناة الملايين في الداخل الفلسطيني، وتربحاً سياسياً تسعى إليه أطراف إقليمية عديدة، والإعتراف بالحقائق والإنطلاق منها نحو البحث عن سبل حقيقية للسلام هو المخرج الوحيد من هذا العبث الذي يستنزف قضية عادلة ويتاجر بآلام أصحابها الحقيقيين.
إحدى الدلالات والحقائق المهمة في هذا الحديث أن تغيير المستقبل يبدأ من تغيير الواقع، وأن أي محاولة لبناء سلام حقيقي في منطقة الشرق الأوسط يجب أن تبدأ من تعديل القوالب النمطية الجامدة التي نشأت عليها الأجيال في منطقتنا، وغرس ثقافة تعايش تختلف عن ثقافة التهميش والإقصاء والعنف التي تقتات عليها تنظيمات التطرف والإرهاب التي تتخذ من القضية الفلسطينية مادة للتربح السياسي والديني.
تتمسك الإمارات بقيمها ومبادئها حين تضع الحوار والسلام والتعايش في قلب أي تحرك دبلوماسي لها، ومن يتابع تحركات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في الآونة الأخيرة، سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، يدرك تماما أن الإمارات تبذل أقصى الجهود من أجل إرساء السلام ونزع فتيل التوترات والصراعات، ومن يلاحظ التحركات الإماراتية باتجاه جميع العواصم الإقليمية والدولية في الفترة الأخيرة، يمكن أن يستنتج بسهولة عمق قناعة الدبلوماسية الإماراتية بالمبادىء التي تضمنتها وثيقة مبادىء الخمسين التي تحدد المسار الإستراتيجي للدولة في المجالات كافة، حيث تتحرك الإمارات عبر كافة خطوط التقاطع، وتحاول بناء التوازنات إقليميًا ودولياً.
"خلق جيل مختلف" هو هدف تسعى إليه الإمارات وقد وضعت لذلك الأسس منذ سنوات طويلة، فقد تحول النموذج التنموي الإماراتي إلى حد مصادر الإلهام للدول العربية والاسلامية، وأصبحت الإمارات قبلة للشباب العربي للعيش والإقامة فيها، وتلك مسألة مهمة للغاية لأن بناء "القدوة" يمثل التزاماً إماراتياً لتوسيع قاعدة الإيمان بالتعايش بين ملايين الشباب في منطقتنا. وعلى من يشكك في نوايا الإمارات وجديتها في السعي لبناء السلام والتعايش الإقليمي أن يتذكر أن توجه الإمارات نحو الجارة اللدود إيران قد تلازم مع تحركها باتجاه إسرائيل، لتبعث رسالة طمأنة قوية بأنها لا تستهدف أحد.
ومن يجادل في منطقية الأسف الإماراتي على ضياع السنوات والعقود منذ توقيع إتفاقية السلام بين مصر و إسرائيل عليه أن يتذكر أن تلك الفترة الزمنية الكبيرة لم تشهد تسوية للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بل شهدت جولات وجولات من الصراعات والعنف، ما يعني أن الرهان على الزمن و الإكتفاء بترديد الشعارات والمزايدة على قضية عربية عادلة ليس حلاً لهذه القضية العادلة، ولا يقود أي من الطرفين نحو بر الأمان، وبالتالي غاب الحوار وتحولت هذه الثقافة إلى الغائب الأكبر في منطقتنا التي لا تعرف الكثير عن هذه الثقافة، سواء بسبب تفشي فكر التطرف والإرهاب، أو بسبب تحول القضية العربية المركزية الأهم، القضية الفلسطينية إلى مادة للصراعات الداخلية وكسب السلطة والنفوذ بغض النظر عن مصالح الشعب الفلسطيني ومتطلبات التعامل مع مطالبه بنزاهة وجدية.
نعم، تتجه الإمارات بقوة ووضوح وصراحة نحو غرس سردية جديدة يرتكز عليها التعايش بين شعوب الشرق الأوسط، وهذه ليست مهمة سهلة ولكن مناسبة للإمارات تماماً، كونها الدولة الأكثر تأهيلاً وقبولاً وقدرة على اقناع الجميع بقدرتها على صياغة رؤية واضحة للمستقبل في هذه المنطقة التي لا يصدر عنها للعالم سوى أنباء الصراعات والأزمات والعنف والقتل وسفك الدماء.