يصعب حصر أهداف ونتائج الجولة المهمة للغاية التي قام بها مؤخراً الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية في نطاق إستباق الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن للرياض، فالجولة تنطوي على دلالات وأبعاد تتجاوز هذه الزيارة لتشمل الإعلان الرسمي عن أمور عدة أبرزها طي صفحة التوتر السعودي ـ التركي، وإنهاء حقبة الخلاف وتدشين مرحلة جديدة من التعاون المشترك بكل ما يعنيه ذلك من نتائج إستراتيجية على الصعيد الإقليمي. من هذه الأمور الحيوية أيضاً تعزيز وتمتين علاقات الشراكة السعودية ـ المصرية، والتأكيد على إستمرارية الدعم السعودي لمصر والأردن في ظل الظروف والمتغيرات الإقتصادية العالمية الراهنة، والبرهنة على محورية دور المملكة في مساندة الأشقاء العرب في التصدي للتحديات التي تواجه دولهم.
الأمر الجيد أن الأمير محمد بن سلمان يتحرك سياسياً، إقليميًا ودولياً، بإيقاع يتماشى مع تطلعات الأجيال السعودية الجديدة، مرسخاً دور المملكة الذي يتناسب مع ثقلها ومكانتها الإستراتيجية وتطلعات شعبها، حيث جاءت جولة سموه التي شملت مصر والأردن وتركيا، بمنزلة مقاربة مهمة لوجهات النظر والتشاور حول كافة القضايا والملفات التي يمكن أن تُناقش خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية، والتي يعقد خلالها إجتماع استثنائي يضم قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، حيث يتوقع أن تكون هذه القمة محطة مفصلية مهمة لإعادة تعريف دور الولايات المتحدة وعلاقاتها العربية والخليجية، ووقوف كل طرف على مواقف الآخر وتوجهاته، لاسيما في ظل إحتدام حالة الصراع والتنافس بين القوى الكبرى على خلفية الوضع في أوكرانيا، وما يرتبط بكل ذلك من التباسات وجدل أثير طيلة الآونة الأخيرة حول موقفي الرياض وأبوظبي حيال الأزمة الأوكرانية.
لاشك أن الأوضاع الراهنة في الخليح العربي والمنطقة العربية ليست كما كانت منذ أشهر قلائل، وتحديداً فيما يتعلق بجهود إحياء إلاتفاق النووي الإيراني التي دخلت نفقاً مظلماً، بحيث بات الإتفاق في حالة "وفاة أكلينكية"، ولا يحول دون الإعلان عن فشل هذه الجهود رسمياً سوى حرص كل طرف من أطراف التفاوض، على تفادي تحمل مسؤولية الفشل أو حتى اتهامه بذلك، لاسيما بالنسبة للإدارة الأمريكية التي سعت جاهدة لعقد أي صفقة ـ ولو لحفظ ماء الوجه ـ شريطة أن تنطوي على حد أدنى من المكاسب التي يمكن تسويقها سياسياً وإعلامياً للناخبين الأمريكيين.
ولاشك أن الجولة الأخيرة لولي العهد السعودي تمثل إضافة لما تحقق على صعيد العلاقات الإقليمية في الآونة الأخيرة من إنجازات نوعية كبيرة، حيث نجحت الدبلوماسية السعودية في تنقية الأجواء الخليجية وطي صفحة الخلاف المرير مع قطر، كما جاء إنهاء الخلاف السعودي التركي بشكل فعلي إضافة جديدة لجهود تهدئة التوترات إقليميًا، كما يمثل تجاوب الرياض مع الجهود المبذولة لمناقشة عوامل التوتر مع الجار الإيراني وجهاً مشرقاً آخر يضيف لجدية الدبلوماسية السعودية وجرأتها في التصدي لأسباب التوتر والتعامل معها بما يتناسب مع دور المملكة ومكانتها وثقلها الإستراتيجي، باعتبارها دولة فاعلة سواء في محيطها الإقليمي، أو على الصعيد الدولي.
لا خلاف على أننا بصدد شرق أوسط جديد، يقوم على التعايش والسلام، وبلوغ هذا الهدف قد تطلب جهوداً كبيرة من دول عدة في مقدمتها دولة الإمارات التي قادت قاطرة ما يمكن وصفه بالموجة الثانية من السلام العربي ـ الإسرائيلي بتوقيع إتفاق إبراهيم في سبتمبر عام 2020، وللمملكة العربية السعودية وولي عهدها الشاب الذي أضاف للدبلوماسية السعودية الكثير، دور ريادي في هذه المرحلة التاريخية لمنطقتنا، فهناك عالم جديد يتشكل، بكل ما فيه من فرص وتحديات، وواقع إستراتيجي جديد يتبلور، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تغيرات في النظم الأمنية والإقتصادية وتوازنات القوى بين الأطرف الفاعلة إقليميًا ودولياً، ما يتطلب تنسيق الجهود والتشاور المستمر وبلورة مواقف تحصن مكتسبات الدول والشعوب في ظل الأزمات الناشئة بسبب أزمتي "كورونا" وأوكرانيا، وهي أزمات لا تستثني أحد من تأثيراتها ومظاهرها وارتداداتها المتعددة: طاقوية وغذائية وصحية واقتصادية ومالية ... الخ.