لا أحد من المتخصصين يشك في أن النظام الإيراني يواجه أسوأ أزمة منذ توليه الحكم عقب ثورة الخميني في عام 1979، فكل المتاعب التي واجهها النظام في مراحل تاريخية سابقة كان لديه البدائل الاستراتيجية التي تتيح له التعامل معها من دون خسائر كبيرة، أو بشكل أدق بخسارة محدودة، ولكن هذه المرة تبدو الأزمة مختلفة كلياً، حيث تعرض النظام الإيراني لعملية مهانة وإذلال وطني كاملة الأركان في عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس الإرهابية" إسماعيل هنية" في قلب طهران، من دون أن يمتلك القدرة على التصدي أو الرد على ماحدث بشكل يضمن استعادة ولو جزءاً من هيبته وكبريائه من دون أن يكون لهذا الرد عواقب وتوابع أشد وأقسى!
تحليل الشواهد يقول أن ارتباك النظام الإيراني عقب اغتيال هنية جاء أشد من تداعيات سقوط مروحية الرئيس السابق إبراهيم رئيسي وتأكد مقتله مع مرافقيه، فالتحدي في عملية الاغتيال هنا واضح والمواجهة الاستخباراتية مباشرة ومعلنة، وتطعن في قدرة النظام على حماية البلاد وتنسف كل ادعاءاته المتكررة طيلة السنوات الأخيرة عن مستوى التطور التكنولوجي في المجال العسكري والتقني، باعتبار أن النظام الإيراني الذي لا يستطيع حماية غرفة صغيرة في قلب مجمع سكني مركزي خاضع لحراسة ميلشياته التي تثير الرعب في أرجاء الشرق الأوسط، لا يمكن الوثوق بقدرته على حماية كبار قادته في الداخل والخارج، ناهيك عن حماية حلفائه وأذرعه المنتشرين في أرجاء المنطقة.
الواضح من متابعة ردود الأفعال أن عملية اغتيال هنية قد فتحت أبواب السخرية في الداخل على النظام الإيراني المعروف بقبضته الحديدية على مواطنيه، فتداعت هيبته وحطت من كرامته الوطنية، وجعلت من حديثه المتواصل عن الدفاع عن إيران مثاراً لسخرية ملايين من البسطاء الذين يعانون جراء الظروف الاقتصادية والقيود الأمنية.
للمرة الأولى يشعر النظام الإيراني بأن يداه مغلولتان عن الرد العسكري الحقيقي الذي يستعيد هيبته، لاسيما أن العملية الاستعراضية التي نفذها رداً على استهداف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق لم تقنع أحداً، بل تحولت إلى مثار للسخرية والإستهزاء من النظام الإيراني وقادته، فما بالنا والأمر هذه المرة يتعلق باختراق استخباراتي من قبل دولة إسرائيل استهدف الداخل الإيراني، وليس لدي ـ شخصياً ـ الشك في أن كبار القادة الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي لديهم رغبة قوية حقيقية قوية في الرد والانتقام، ولكن علينا الاعتراف بأن الرغبة هذه المرة منفصلة تماماً عن القدرة على ترجمتها إلى أفعال على الأرض، في ظل ضخامة الأثمان والكلفة المحتملة لأي انتقام فعلي يضمن استعادة الكبرياء الوطني لهذا النظام، الذي لاهم له سوى البقاء والاستمرار، حيث يعد مصير النظام البوصلة الحقيقية لأي سلوك إيراني، ولا عزاء هنا للضحايا سواء كان قائداً لحرسه الثوري، والرجل الثاني في النظام الإيراني من الناحية الفعلية، أو رئيساً راح ضحية لحادث سقوط طائرة لم يعلن عن أسباب مقنعة لها، أو زعيم لأحد أهم أذرع إيران الميلشياوية في منطقة الشرق الأوسط.
عادة ما يلجأ الملالي في مثل هذه المحن الصعبة إلى مبدأ التقيه أو لنقل الواقعية السياسية، وفقه المصلحة، والتذرع بالمصلحة العامة والتوازنات السياسية والاستراتيجية، حيث يظهرون عكس ما يبطنون، ويلوذون بأفكارهم وخيالاتهم التي تصور لهم ما يريدون بدلاً من مواجهة الواقع الذي يهربون منه، وهم بالفعل أحوج ما يكونوا لطوق الانقاذ هذا لأن ما يتعرض له النظام الإيراني من الإهانة هذه الفترة هو بالفعل كما أسمته وسائل إعلام إيرانية معارضة عملية إذلال تاريخية ودولية في مواجهة عدوه الرئيسي دولة إسرائيل أو هكذا يعلن، ما يضعه بين خيارين أحلاهما مر، ولا مجال للتنصل والمراوغة أو الادعاء بأي حجج بعد أن تكررت حيل النظام الإيراني وألاعيبه وانكشفت عدم قدرته/ رغبته في خوض مواجهة مباشرة مع أي عدو له، ما يعني أن هناك خيارين لا بديل لهما أولهما الصمت يقوض البقية المتبقية من مصداقيته في عيون مؤيديه وأنصاره وحوارييه الاقليميين، وثانيهما الرد المزلزل كما وعد أحد قادته بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات قد تنتهي بزوال هذا النظام نفسه، أو على الأقل تفتح الباب أمام حراك شعبي ينتظر لحظة الفكاك من قبضة الميلشيات الأمنية والانقضاض على ماتبقى من نفوذ للنظام.
الحقيقة الواضحة للجميع أن الدهشة تعم العالم، وبالأخص المراقبين والباحثين، إزاء هذا المستوى المدهش من الضعف والترهل الأمني الذي لا يليق بدولة تقدم نفسها للجميع باعتبارها نموذجاً لتحدي الهيمنة والنفوذ الغربي وغير ذلك من الشعارات الأيديولوجية التي ترفعها الثورة الإيرانية منذ أكثر من أربعة عقود، والأغرب من هذه الاختراقات الكارثية المتكررة هو قدرة النظام على مواصلة التعتيم واخفاء الحقائق من دون إدراك لآثار هذا التكتم على مصداقيته ومدى الضرر الذي يطال سمعته وصورته الذهنية إقليمياً ودولياً جراء محاولات الانكار المتكررة لدلائل الضعف والفشل التي تعانيها أنظمته الأمنية ومحدودية قدرته على تعقب الأسباب والكشف عنها، أو تعمد إخفائها تفادياً لصراعات محتملة بين أركان النظام وربما لتورط مسؤولين كبار في هذه الاختراقات والاخفاقات.