لا تزال نتائج استطلاعات الرأي الأمريكية تعطي نتائج متعادلة أو تعكس تفوقاً ضئيلاً لمصلحة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، حيث تظهر متوسطات استطلاعات الرأي التي تجريها وكالات مختلفة أن هاريس تفقد تدريجياً تقدمها الذي حققته بعد انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، حيث يشير التوجه العام للناخبين إلى أن ترامب يحقق تقدماً من خلال التأثير في اتجاهات الناخبين المترددين والشريحة غير المؤدلجة سياسياً.
ورغم أن هذا التذبذب في نتائج استطلاع الرأي ـ صعوداً وهبوطاًـ يعد أمرا ً معتاداً في الأسابيع الأخيرة التي تسبق الانتخابات، ومن الصعب البناء عليه في هذه التوقيتات تحديداً لاستخلاص أحكام وتقديرات معتبرة بشأن نتائج اقتراع الخامس من نوفمبر المقبل، فإن النجاحات الصغيرة التي تحققها حملة ترامب لتعزيز فرصه الانتخابية توفر بعض المؤشرات الدالة على ايجابية فرص الرئيس السابق في الفوز بالسباق الانتخابي، وفي مقدمة ذلك تأتي مؤشرات أسواق المال وأسهم البنوك وأسواق العملات الرقمية التي تراهن بقوة على فوز ترامب، ولايقتصر رهانها على ذلك فقط بل على احتمالية فوز الجمهوريين بأغلبية مجلسي الكونجرس الأمريكي.
بلاشك أن استطلاعات الرأي الأمريكية لا يمكن الرهان عليها بشكل تام في بناء أحكام قطعية حول نتائج الانتخابات، فقد سبق لها أن خرجت بنتائج خاطئة في انتخابات عام 2016، حين خالفت نتائج المجمع الانتخابي ما توصلت إليه صناديق الاقتراع، وهو من الامور التي يصعب على الاستطلاعات حسمها لاسميا حين يكون الفارق بسيطاً في الولايات الرئيسية التي تمتلك أصواتاً كبيرة في المجمع الانتخابي، وهو ماحدث عام 2016 حين توقعت استطلاعات الرأي فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بأصوات الناخبين في التصويت المباشر، حيث حصلت على نحو 3 ملايين صوت زيادة عما حصل عليه ترامب، ولكن أصوات المجمع الانتخابي حسمت الأمر بالنهاية لمصلحة المرشح الجمهوري.
إشكالية تقارب نسب التصويت بين هاريس وترامب بحسب استطلاعات الرأي ربما تتسبب في تكرار سيناريو انتخابات 2016، يضاف إلى ذلك أن هاريس لم تعد تستطيع تحريك مؤشر الاستطلاعات بالزيادة لمصلحتها في الأسابيع الأخيرة، بحيث يرى الكثير من المراقبين أنها وصلت إلى سقف شعبيتها، وليس بامكانها تحقيق المزيد من التقدم ، فيما يواصل منافسها تحقيق نجاحات صغيرة في بعض الولايات الأمريكية محققاً تقدماً ولو بسيطاً عليها في استطلاعات الرأي تاركاً لها مؤشر التقدم الطفيف على الصعيد الوطني، حيث وضعت ثلاث استطلاعات رأي أجريت على المستوى الوطني منذ 8 أكتوبر، هاريس في مقدمة السباق الانتخابي بما لا يزيد عن ثلاثة نقاط، وهو ما يعني أننا نتحدث عن فرضية بالغة الأهمية وهي أن الفوز لأي من المرشحين يمكن أن يكون في إطار نسبة هامش الخطأ المسموح بها في الاستطلاعات، أي بنسبة ضئيلة من الأصوات، أي بفارق نقطة أو نقطتين، بحيث يحسم المجمع الانتخابي الأمر لمصلحة أي منهما في النهاية.
معضلة هذا السباق الانتخابي الشرس ترتبط بالأساس بأن أي خطأ قد ترتكبه حملة أياً منهما قد يتسبب في خسارة المرشح بطريقة يصعب تعويضها، كما أن أي حادث أو ظروف قد تؤثر في السابق من خلال استغلال أحدهما لهذه الظروف، ومثال على ذلك محاولة ترامب الخروج من جدلية التعادل في استطلاعات الرأي بولايتي ولايتي جورجيا وكارولينا الشمالية، التي شهدت كارثة اعصار هيلين، وتحتاج إلى مساعدات مادية هائلة، حيث حاول ترامب الادعاء بأن أموال المساعدات المخصصة لحالات الطوارىء ذهبت إلى المهاجرين، رغم أن ميزانية الطوارىء منفصلة بالفعل عن ميزانية الانفاق على المهاجرين، وقد حاول الديمقراطيون كشف زيف تصريحات ترامب، وذلك فإن لعبة خلط الأوراق في هذه التوقيتات يمكن أن تتسبب في قلب الطاولة على أحد المرشحين بالنظر للظروف والتعقيدات التي لا توفر لضحايا هذه الكوارث التأكد من صحة ما يسمعونه، أو الاستماع للطرف الآخر ناهيك عن الثقة فيما يقول.
على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية، لم تنجح إدارة بايدن أي نجاح يمكن للمرشحة الديمقراطية الاستفادة منه وتوظيفه في حملتها الانتخابية، لذلك يبدو من غير اللافت أن تقدم نفسها باعتبارها مرشحة التغيير رغم أنها يفترض أن تخلف رئيساً ديمقراطياً وليس جمهورياً، كما لجم أي فرص لإشتعال حرب تتورط فيها الولايات المتحدة بالشرق الأوسط قبيل الانتخابات الأمريكية، ورغم أن السياسة الخارجية ليست احد محركات التصويت الانتخابي، فإن تأثير أي حرب محتملة بين إيران و دولة إسرائيل على أسعار الطاقة سيكون محركاً أساسياً للتصويت الانتخابي، وسيمنح ترامب فرصة الفوز شبه المؤكد على المرشحة الديمقراطية، وهنا نشير إلى أن مجرد تصريح بايدن عن امكانية ضرب منشآت النفط الايرانية قد تسبب في ارتفاع الأسعار بنسبة تزيد من خمسة بالمائة، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على أسعار الوقود التي تعد أحد العوامل القوية المؤثرة في اتجاهات التصويت الانتخابي.
الأمتار الأخيرة في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية يمكن أن تكون حاسمة في قرار الناخبين، وهنا تبدو فرص هاريس أضعف لأنها في موقع السلطة، وستتأثر حتماً بأي تطورات سلبية تكون الإدارة الأمريكية الحالية طرفاً فيها، فيما توفر هذه التطورات فرصة مثالية للرئيس السابق للمزايدة سياسياً وممارسة لعبة الأوراق وإرباك حملة المرشحة الديمقراطية التي تتحمل تكلفة سياسية كبيرة لفشل الرئيس بايدن في إدارة العديد من الملفات داخلياً وخارجياً، بينما لا يخلو موقف الرئيس السابق ترامب من منغصات أو مفاجآت محتملة حتى الخامس من نوفمبر، ولاسيما ما يتعلق بملف أعمال الشغب في مقر الكونجرس يوم السادس من يناير 2021، حيث لا تزال حملته تخشى ظهور أدلة جديدة أو اثبات أي دور لترامب فيما حدث آنذاك.
ورغم كل ماسبق فإن عامل الحسم برأيي في هذه الانتخابات يتمحور حول تقدم ترامب المحدود في استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً بالولايات الرئيسية ذات الأصوات الكبيرة داخل المجمع الانتخابي، فضلاً، وهذا هو الاهم، عن الثقة التي يحظى بها من معظم الناخبين الأمريكيين للتعامل مع القضايا والتحديات الخطيرة مثل الاقتصاد والهجرة والتعامل مع الدول التي تمثل تهديداً للولايات المتحدة وإسرائيل مثل روسيا وإيران، ومعالجة الصراع الشرق أوسطي الذي فشلت إدارة بايدن في التعامل معه، ويتوقع أن يكون أحد الأسباب المؤثرة في فرص هاريس في الفوز بالانتخابات.