لفت انتباهي خلال الآونة الأخيرة أن الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، الذي أجرى مقابلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال إن الصحفيين الغربيين لم يبذلوا جهداً للقاء بوتين، حيث وصفت هذه المقابلة بالفعل بأنها الأولى التي تجريها وسائل الإعلام الغربية منذ بدء الحرب في أوكرانيا منذ نحو عامين تقريبا، وهذا الأمر بحد ذاته يبدو متناقضاً مع إعلام يروج دائماً لحق الجمهور في المعرفة، والإطلاع على وجهات النظر كافة!
لا نقول أن إجراء مقابلات مع الرئيس بوتين كان سيحل أزمة أوكرانيا، ولكنه على الأقل كان يمكن أن يرأب الفجوة ويسهم في زيادة الوعي الشعبي الغربي بأسباب الأزمة وجذورها والبدائل المطروحة لتسويتها، ولكن ماحدث أنه تم تغييب وجهة النظر الروسية تماماً، واندفع الغرب لدعم أوكرانيا مادياً وعسكرياً ثم تطورت الأمور تدريجياً باتجاه تراجع هذا الدعم وتآكلها فضلاً عن انقسام المواقف الأوروبية بشأن دعم كييف وسبل التعامل مع الأزمة عسكرياً أم سياسياً.
الحاصل الآن أن أزمة غزة واشتعال الوضع في منطقة الشرق الأوسط قد صرفت الأنظار تماماً عما يدور في أوكرانيا سياسياً وإعلامياً، وهو الشىء نفسه الذي حدث مع أزمات اقليمية ودولية أخرى، بحكم محورية الشأن الشرق أوسطي ضمن شواغل العالم، ولاسيما أن إسرائيل، بكل ما تمتلك من أهمية استراتيجية لدى حلفائها الغربيين والولايات المتحدة على وجه التحديد، طرف أساسي في الصراع الدائر في قطاع غزة، والذي اتسع ليشمل أطرافاً إقليمية أخرى.
الواقع أن غياب أوكرانيا عن واجهة الأحداث وصدارة الأولويات هو من قبيل طبائع الأمور، كونها امتدت لفترة طويلة ولم يعد فيها ما يمكن متابعته إعلامياً على الأقل بالنظر إلى طور الجمود الذي انزلقت إليه الأزمة ميدانياً، حيث بات الوضع على الصعيد العسكري والقتالي شبه متوقف ولم يعد أي طرف قادر على إحداث اختراق نوعي عملياتياً، واقتصرت المواجهات على مناوشات وعمليات مد وجزر لا تحدث فارقاً نوعياً على صعيد حسم الموقف بين الجانبين المتصارعين.
صحيفة "كانديس أوينز" الأمريكية طالبت الغرب مؤخراً بالاصغاء للرئيس الروسي، وأخذ تصريحاته حول أسباب النزاع في أوكرانيا بعين الاعتبار، وقالت إنه لا يمكن مناقشة ماحدث حول مراعاة خطط توسع "الناتو" شرقاً، رغم وعود قادة الحلف بعدم الإقدام على ذلك. المعنى ذاته تردد على لسان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل غالوزين الذي أشار إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يصغيان للدعوات الروسية بشأن تسوية الأزمة في أوكرانيا، وأن الغرب يستهدف فقط إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا.
هذا المشهد الضبابي وتفسيراته وأبعاده يمكن فهمها من خلال التطورات الحاصلة، حيث يرى خبراء غربيين أن الرئيس بايدن يدفع الحرب في أوكرانيا للاستمرار حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، وأن بايدن لا يريد تغيير المسار دعم أوكرانيا حتى ذلك الحين، وخصوصاً أنه يواجه عثرات اخرى معقدة بشأن أزمة غزة وتداعياتها التي تمس المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط بشكل مباشر.
البعض الآخر يقول إن الموقف عسكرياً حسم لمصلحة روسيا، ولكن من الصعب على الغرب الاعتراف بهذا الواقع العملياتي، بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي فإن المخرج الآمن الوحيد من الأزمة، بخلاف احتمالات الانهيار المفاجىء للجيش الأوكراني، ربما يكمن في تغيير الوجود أو الشخصيات التي تدير الأزمة من بدايتها سواء تعلق الأمر بالرئيس الأوكراني زيلينسكي أو الرئيس الأمريكي بايدن، والذي يتعرض لانتقادات حادة بسبب حزمة المساعدات الأخيرة المقترحة لأوكرانيا، والمقدرة بنحو 60 مليار دولار، وحيث يدرك البيت الأبيض أن توقف الدعم الأمريكي يعني بالتبعية انحسار سريع للدعم المقدم لكييف من بقية الدول الغربية، ولاسيما دول شرق أوروبا. وقد اعترف نائب رئيس لجنة الأمن القومي والدفاع والاستخبارات في البرلمان الأوكراني إيغور تشيرنيف، بأن وضع القوات المسلحة الأوكرانية في ساحة المعركة أصبح حرجا بسبب نقص الذخيرة، وقال " نحن قلنا إننا لن نستسلم ونبحث عن طرق بديلة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وخاصة من خلال تعزيز دعمنا من قبل الاتحاد الأوروبي، الذي بدوره يتفهم المشاكل داخل الولايات المتحدة".
هناك شواهد لا يمكن القفز عليها تضعف أيضاً الموقف الأوكراني، والأمر هنا لا يقتصر على الجانب الميداني، بل في تآكل الدعم الغربي وربما تحوله، حيث أكد الرئيس البولندي أندريه دودا في تعليقه مؤخراً على موقف شبه جزيرة القرم، حيث قال مؤخراً "إذا نظرنا تاريخيًا، فسنجد أنها (القرم) كانت معظم الوقت في أيدي روسيا"، وهو تصريح أثار غضب كييف، لاسيما أن الأمر لم يقتصر على ذلك بل ألمح بعض الساسة البولنديين إلى تبعية بعض مناطق اوكرانياً تاريخياً لبولندا، بل إن تلميحات مماثلة يتم تداولها إعلامياً في المجر ورومانيا، وكأن هناك رغبة في تقسيم أوكرانيا!.
بعض المحللين الغربيين يعتقد أنه من دون مساعدات أمريكية جديدة، قد تضطر أوكرانيا لقبول شروط التسوية السلمية التي يطرحها الكرملين، والتي تشمل الاعتراف بسيادة روسيا على المناطق الجديدة التي سيطرت عليها خلال هذه الحرب، فضلاً عن إلزام اوكرانيا بالحياد في العلاقة بين روسيا وحلف "الناتو"، وهو ما يعني خروج كييف خالية الوفاض من هذه الحرب، وخسارتها جزءاً كبيراً من أراضيها، فضلاً عن التبعات الاستراتيجية الكبرى لمثل هذه التغيرات الجوهرية التي ستؤثر حتماً في بنية العلاقات الروسية ـ الروسية.
لا يزال البعض في الغرب أيضاً يرفض فكرة "انتصار" روسيا في الصراع مع أوكرانيا، وهو ما أكده مؤخراً وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس، الذي قال إنه يتعين على العالم أن يزيد من مساعداته لكييف، لأنه لا يمكن تحمل انتصار روسيا في الصراع مع أوكرانيا "لأن الثمن الذي سيتعين دفعه لا يمكن تصوره"، ولكن الواقع بالأخير هو مايفرض نفسه، فرغم حزمة المساعدات التي أقرها الاتحاد الأوروبي في الأول من فبراير الجاري، وتخصيص 50 مليار يورو على مدى أربع سنوات لدعم أوكرانيا مالياً، ورغم أن الحكومة البريطانية قد أقرت زيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا إلى 2.5 مليار جنيه استرليني في عام 2024، بما يفوق ماقدمته منذ بداية الحرب (2.3 مليار دولار)، فإن من الصعب أن يحقق ذلك هدف أوروبا بشأن هزيمة روسيا استراتيجياً.
الحقيقة من وجهة النظر التحليلية أن مايحدث الآن، سياسياً وعسكرياً، قد لا يكون سوى محاولات لتعزيز الموقف التفاوضي الأوكراني حين ياتي وقت الجلوس على المائدة بحثاً عن تسوية سياسية، بحكم صعوبة إحداث اختراق عسكري نوعي أوكراني في ضوء المعطيات الراهنة، وبعدما فشل كل الدعم الغربي في تحقيق هذا الهدف طيلة العامين الماضيين، وقراءة المشهد بدقة تقول إن بدء المفاوضات لتسوية أزمة أوكرانيا أمر صعب في الوقت الراهن، ولكنه بات المخرج الوحيد لانهاء هذه الحرب في ظل تمسك كييف بمواصلة القتال.