رداً على الجدل المثار حول موقف إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب بشأن تنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، أعلن البيت البيض مؤخراً أنهم في "المراحل الأولى" من المناقشات حول هذا الموضوع. ردود الأفعال تنوعت بطبيعة الحال، وكما هو متوقع، بين ترحيب إسرائيلي واستنكار فلسطيني، في حين غاب تماماً الصوت العربي عن التعليق على الموضوع، ويبدو أن العواصم العربية منهمكة في التعرف إلى توجهات الإدارة الجديدة عليها أولاً.
وضع السفارة الأمريكية في إسرائيل إشكالية قديمة جديدة في الدبلوماسية الأمريكية، وغالباً ما يتم ترحيلها بشكل تقليدي من إدارة لأخرى تفادياً لعواقب كثيرة محتملة في حال نقلها رسمياً من تل أبيب إلى القدس، باعتبار أن المسألة ليست مجرد تحريكاً جغرافياً للمكان بل تنطوي على أبعاد سياسية واستراتيجية اعمق من ذلك بكثير، وقد أثار ترامب شغف الإسرائيليين حين وعد خلال حملته الانتخابية باتخاذ قرار نقل السفارة إلى القدس. أغلب الظن أن ترامب لم يقدم على هذه الخطوة قبل أن يلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن خلال شهر فبراير المقبل كما هو مقرر حتى الآن، حيث أعلن نتنياهو أنه قبل دعوة رسمية لزيارة الولايات المتحدة لمناقشة "التهديد الإيراني" مع الرئيس الأمريكي الجديد، والأهم، أو لنقل الجديد، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقول أنه سيناقش "رؤية مشتركة" للمنطقة. لا خلاف على أن وجود ترامب في البيت الأبيض يمثل جرعة اوكسجين قوية للحكومة الإسرائيلية المتشددة، فرغم صدور قرار مجلس الأمن الخاص بالمستوطنات، الذي دعا إسرائيل للكف عن سياسة الاستيطان، واعترضت عليه إسرائيل واقامت الدنيا واقعدتها بسببه، فإنها قد صدقت على بناء المزيد من المستوطنات في القدس الشرقية بعد يومين فقط من تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد في إشارة لا تخطئها عين مراقب حول احتمائها بالسيد الجديد للبيت الأبيض! لا شك أن نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس سيكون مقدمة لنقل سفارات أجنبية أخرى عديدة إلى المدينة وما يعنيه ذلك من آثار قانونية واستراتيجية بالنسبة للقدس، ومن ثم القضية الفلسطينية برمتها. من باب السخرية أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد اعتبر في تصريح له أن نقل السفارة الأمريكية "سيؤكد لإسرائيل أن ترامب صديق لهم" (!) وكأن إسرائيل بحاجة إلى هكذا خطوة للتأكد من صداقة ترامب، وكأن المسألة لا تعد كونها اثبات صداقة من عدمه !! ما هكذا تورد الأبل أيها الساسة العرب!! بعد مطالعتي للكثير من الكتابات حول الموضوع، لم أجد من يتوقع ردة فعل عربية سوى القول بان هناك موجة إدانة واستنكار وشجب من "بعض" العواصم العربية، حتى تيقنت أن سقف العرب في هذا الإطار هو هذا الشجب والادانة، وهذه حقيقة لا تنكر وليست عيباً ولا خطيئة لأننا، كعرب، لا نمتلك فعلياً أي أوراق ضغط ولا حتى هامش مناورة سياسي للتحرك فيه رداً على أي قرار أمريكي محتمل في هذا الملف. أتمنى أن يدرك الجميع من الآن أبعاد نقل السفارة الأمريكية، فهي ليست خطوة شكلية، بل تعني اسقاط حل الدولتين المطروح دولياً واقليمياً، والذي بات بمنزلة "ورقة التوت" لستر عورات العرب، كما يعني إغلاق عملياً لمفاوضات الوضع النهائي، ويعني ضوء أخضر لإسرائيل كي تمضي في الاستيطان بلا قلق من ردود فعل دولية، والأهم انه يعني انتفاء وجود أي شيء يمكن التفاوض حوله مستقبلاً، فقرار ترامب سيكون تحولاً استراتيجياً هائلاً، وسيفتح الباب أمام موجة عاتية من الإرهاب ولا اعتقد أنني أبالغ في ذلك، فتنظيمات الإرهاب تقتات دائما على مثل هذه الممارسات السلبية. اعتقد، شخصياً، أن التوجه الأمريكي بشأن نقل السفارة سيكون بمنزلة تحد بل عبء صعب على القمة العربية المقررة نهاية مارس المقبل في العاصمة الأردنية عمان، لاسيما إذا قررت إدارة ترامب نقل السفارة قبل هذا التوقيت ووضعت القمة أمام الأمر الواقع. الأمين العام للجامعة العربية كان قد وصف الوضع العربي قبل تولي ترامب مهام منصبه بأنه وضع "ضاغط" وأن هناك "بحر هائج" يفرض على القادة العرب أن يشاركوا في القمة المقبلة، ولكني لست اتفق معه لأن صدور قرار بنقل السفارة ربما يكون كفيل بإلغاء القمة ذاتها أو تحديد سقفها قبل أن تبدأ!!. الوضع العربي البائس لا يحتاج إلى تحليل، بل تكفي الإشارة إلى تصريحات الأمين العام أحمد أبو الغيط اليائسة التي قال فيها نصاً "أنا أبلغ من العمر 74 عاما ولم أتصور في أبغض أحلامي عندما كنت شابا في ال16 من العمر عندما كنت أنادي بالقومية والنضال العربي من أجل الوحدة والحرية قبل أكثر من 50 عاما، لم أكن أتصور أنني سوف أشهد ما أشهده من ضياع لأسر ولاجئين وتشريد وتمزق وقتل وظهور جماعات من البشر فقدوا القدرة على السيطرة على أنفسهم" ورغم أنه دعا لمقاومة هذا الواقع في إطار الجامعة العربية، فإنني لا أشعر بأي تفاؤل لاسيما إذا عرفنا أن تحديد موعد انعقاد القمة خلال أيام مارس المقبل لم يكن قد تحدد رسمياً حتى نهاية عام 2016، والمملكة الأردنية الشقيقة لا تلام على ذلك بطبيعة الحال لأنها هي من تصدت لتحمل المسؤولية وقررت استضافة القمة العربية المقبلة بعد اعتذار اليمن عن ترؤوس الدورة الثامنة والعشرين لمجلس القمة العربية على مستوى القمة، وبالتالي فالأشقاء الأردنيون انقذوا ما يمكن إنقاذه في هذا المجال، ولكن مبعث تشاؤمي ينطلق من المشهد العربي العام بتفاصيله المخزية، فضلاً عن أن آخر قمة عربية في موريتانيا في يوليو الماضي حضرها قادة سبع دول فقط من الدول ألـ 22 الأعضاء. الصراحة والموضوعية تقتضي منا القول بأن قمة عمان لا تقبل القسمة على اثنين، وليست مجالاً للتشظي او لنقل لمزيد من التشظي والتفرق والغيابات، والتحديات لا تقتصر على ملف القدس بل هناك ظروف المملكة الأردنية ذاتها، حيث تتفاقم أعداد اللاجئين السوريين، وهناك حدود ملتهبة في الشمال والشرق، ناهيك عن أن القمة ستعقد وسط جولات تفاوضية تستهدف تقاسم الغنائم بين القوى الإقليمية والكبرى في سوريا! اعتقد أيضاً أن التحدي الأهم للقمة العربية المقبلة يتمثل في مستوى حضور القادة العرب، فالغيابات تعني استسلاماً للواقع وتسليماً به، وتعني أيضاً رسالة بالغة السلبية للشارع العربي بأكمله بأن القادة غير قادرون على رؤية الواقع العربي ناهيك عن إيجاد حلول وبدائل للتعامل معه.