منذ عام 2011، يلفت انتباهي الدور السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث نسب إليها الكثيرون دور "البطولة"في الاحتجاجات التي شهدتها بعض الدول العربية، لذا فقد قررت وقتذاك إخضاع هذه الظاهرة للبحث العلمي من خلال أطروحة الدكتوراه، التي كنت أنوى اعدادها في تلك الفترة، وبالفعل بدأت في إعداد رسالتي العلمية، التي انتهيت من مناقشتها واجيزت مؤخراً، بعنوان "الدعاية والقيادة السياسية والدينية على شبكات التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية: دراسة ميدانية على عينة من الإعلاميين العرب".
ورغم أن الدراسة العلمية، قد استغرقت مني وقتاً طويلاً بسبب الانشغال في عملي، فإن هذا الوقت قد وفر لي فرصة نادرة للتعرف إلى موضوع الدراسة بشكل تفصيلي ربما أكثر مما احتاجته الخطة البحثية التي عملت عليها في رسالة الدكتوراه، فقد فتح لي الموضوع مجالاً لنقاشات موسعة مع باحثين وإعلاميين متخصصين في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، التي يشهد دورها توسعاً هائلاً وعميقاً في السنوات الأخيرة.
وقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي أنماط وأساليب صناعة القيادة والزعامة السياسية في العالم كله، وليس في عالمنا العربي فقط، وقد تابعنا جميعاً كيف فاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية رغم عداء غالبية وسائل الإعلام الأمريكية التقليدية المؤثرة له، وتابعنا كيف يأتي رئيس جديد إلى البيت الأبيض رغم أنف "نيويورك تايمز"و"واشنطن بوست"و"سي إن إن"وغيرها من عمالقة الإعلام الأمريكي، ورغم الهجمات الإعلامية الشرسة التي تعرض لها من جانب هذه الوسائل الأكثر شعبية وجماهيرية، ولكنه نجح من خلال توظيف موقع "تويتر"وبقية وسائل التواصل الاجتماعي في بناء قاعدة شعبية مكنته من الفوز بالانتخابات وتحقيق مفاجأة انتخابية ظلت حتى الساعة الأخيرة لإعلان النتائج مستبعدة من قبل استطلاعات الرأي، والخبراء والمراقبين السياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي دولنا العربية، تتكرر الظاهرة نفسها تقريباً مع تباين بسيط في بعض التفاصيل، فقادة وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي مجهولون في غالبيتهم أو لنقل بعيدون عن مسرح النجومية في وسائل الاعلام التقليدية، ففي عالم وسائل التواصل الاجتماعي العربي هناك قادة سياسيون ودينيون مؤثرون ومعروفون لا نجدهم عادة في التلفاز والصحف والشبكات الاذاعية، وإن كان هذه الوسائل التقليدية تحاول اختطاف البعض منهم واستغلال شعبيتهم في تقديم البرامج أو المشاركة كضيوف فيها من أجل الاستفادة من سقف شعبية هؤلاء وجذب جمهور جديد لوسائل تقليدية انصرفت غالية الجمهور عنها لأسباب متشعبة ومعقدة.
لم أكن في دراستي العلمية اقصد الاكتفاء بدراسة أنماط القيادة التقليدية في وسائل التواصل الاجتماعي، بل استهدفت، ضمن اهداف الدراسة، رصد أساليب الجماعات الارهابية في قيادة أتباعها ومؤيديها والمتعاطفين معها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا موضوع شيق وممتد، لاسيما أن العالم الافتراضي قد تحول إلى ساحة كبير خالية تقريباً تتحرك فيها التيارات السياسية والدينية، وتصول الجماعات الارهابية فيها وتجول، بل إن "داعش"، على سبيل المثال، قد نجح في تحويل "الانترنت"إلى شبكة تجنيد ودعاية في غاية الدقة والتنظيم، وكان لها الدور الأبرز في بناء نفوذ التنظيم واستمراره في مواجهة حملة عسكرية دولية لأعوام عدة.
وخلال إعداد الدراسة توصلت إلى استنتاجات عديدة ناقشت البعض منها في مقالات سابقة لي، فيما آثرت الابقاء على بعضها الآخر كي يكون حصرياً على الرسالة العلمية، ولارتباطه الشديد بها كجزء من الاستنتاجات العلمية الخاصة بالدراسة الميدانية المشمولة في الرسالة العلمية، واذكر أن من أبرز تلك الاستنتاجات هو التحولات المعقدة والخلط الحاصل بين الدعوة الدينية والدعاية السياسية، فقد شهدت الأعوام الأخيرة خلطاً كبيراً بين من يقوم بالدعوة ومن يقوم بالدعاية، فالكثير من الدعاة تحولوا إلى السياسة لمصلحة جماعات وتنظيمات بعينها، وهم لم ينتقلوا فجأة من مربع الدعوة إلى مربع الدعاية، بل إن هذا جزء محوري من منهج عملهم، فهم أساساً ينتمون إلى جماعات تمتلك أجندات سياسية وظلت لعقود وسنوات طويلة تتخفى وراء أقنعة دينية، وتروج لأنشطها بشعارات دينية براقة، وحين جاءت اللحظة المناسبة خلع هؤلاء القناع وأظهروا انحيازاتهم السياسية وانتماءاتهم الأيديولوجية، فكان التعصب للرأي والغلو في الطرح والدفاع عن الأتباع والمناصرين سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، ومن ثم فقد غابت، أو غٌيبت، القيم الدينية الحقيقية، وتحول الجدل والخلاف إلى خلاف مصالحي على أهداف دنيوية سياسية لا علاقة لها بالجانب الديني والروحي، الذي انجذب الكثيرون لهؤلاء الدعاة من خلاله!!
ادركت أيضاً من خلال بحوثي أن الدول والحكومات قد تأخرت كثيراً عن الوجود في الفضاء الالكتروني، ولم تفطن إلى تأثير زعماء الفيسبوك في عصر العولمة، وتركت مواقع التواصل الاجتماعي حكراً على تنظيمات وتيارات أيديولوجية، ظناً منها أن القوة الحقيقية على الأرض وليست في الأجواء السيبرانية، وذلك لضعف في الوعي الإدراكي وعدم إلمام بما كان يدور من حولنا في "أكاديميات التغيير"وغيرها من إعداد وتدريب لفئات من الشباب العربي على القيادة والتغيير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فقد دفعت بعض الدول والأنظمة الحاكمة فاتورة باهظة ومكلفة لقصور الوعي وضعف الإدراك السياسي والاستراتيجي!!