يبدو موقف العراق الراهن وسط التوترات المتصاعدة بين إيران والولايات المتحدة كمن يمشي على حبل مشدود، فما يكاد يوم حتى تقصف قواعد ومقرات وأراض داخل العراق سواء من جانب إيران أو تركيا أو الولايات المتحدة، ما ينتج ضغوطاً كبيرة على الحكومة العراقية التي تجد نفسها ملزمة بالدفاع عن سيادة البلاد وسط شبكة معقدة من العلاقات الاقليمية والدولية التي يتخذ بعضها من أرض مسرحاً لتصفية الحسابات تارة، واستعراض القوة وخوض الحروب بالوكالة تارة أخرى.
قصف قواعد تابعة للقوات الأمريكية داخل العراق لم يعد خبراً غير عادي، والرد عليه كذلك لم يعد خبراً طارئاً، ولكن القصف الإيراني لأربيل مؤخراً مثّل محطة مهمة وسط هذه التوترات المتسارعة، حيث اعتبره رئيس الوزراء العراقي عمل عدواني يقوض العلاقة القوية بين بغداد وطهران، وأكد أن الحكومة العراقية "تحتفظ بحقها في اتخاذ كافة الإجراءات الدبلوماسية والقانونية بما يتطابق مع مبدأ السيادة الوطنية"، وسلمت الحكومة العراقية بالفعل مذكرة احتجاج للقائم بالأعمال الإيراني، واستدعت السفير العراقي في طهران للتشاور. من جانبها قالت الخارجية الإيرانية إن الضربات الأخيرة استهدفت مقرا تجسسيا للموساد في أربيل، ومواقعَ وقياداتٍ وعناصرَ إرهابية في سوريا، وقد كانت "دفاعًا عن سيادة إيران وأمنها في مواجهة الإرهاب"، مشيرة إلى أن طهران تحترم سيادة أراضي الدول، لكنها تستخدم حقها المشروع لردع التهديدات لأمنها القومي".
بلاشك أن المنطق الإيراني في تفسير "الحق المشروع" لردع التهديدات الخارجية ينطلق من لي فاضح للحقائق ولا نقول فهم مغلوط للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، الذي يعد حق الدفاع عن النفس أحد ركائزه الأساسية، بل هو احد الحقوق الثابتة والمطلقة للدول، حيث تكفل المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة "الحق الطبيعي" للدول في الدفاع عن النفس "إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد هذه الدول، وبعيداً عن شرطي الضرورة والتناسب اللذين وضعهما المشرع لضمان عدم الحيود عن أهداف الميثاق، فإن من الضروري هنا الإشارة إلى أن العراق دولة تحتفظ بعلاقات قوية مع إيران وليس هناك مايمنع التنسيق معها من أجل تحييد التهديدات، وعدم انتهاك سيادة هذه الدولة الصديقة أو تعريض حكومتها لحرج داخلي وخارجي كبير بسبب شن ضربات داخل اراضيها دون التنسيق معها، ناهيك عن انتهاك السلوك الإيراني وغيره لشرط إلزامية إبلاغ مجلس الأمن الدولي فورياً بالتدابير التي تتخذها في إطار الدفاع عن النفس، وهو شرط تنظيمي ولا يمثل قيداً على الدول في ممارسة هذا الحق، ويهدف لمنع التعسف أو الافراط في استخدامه.
قد يقول قائل: وهل تبلغ إسرائيل أو الولايات المتحدة مجلس الأمن مسبقاً بما تنفذه من ضربات تزعم أنها في إطار الدفاع عن النفس، وهنا نشير إلى أن خصوصية العلاقات العراقية ـ الإيرانية، كونهما طرفين لا يقعان في خصومة مباشرة أو غير مباشرة، بما يستوجب احترام سيادة الجار واتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد الثنائي والدولي لتفادي أي سوء فهم في هذا الشأن.
الهجمات الصاروخية الإيرانية التي زعم الحرس الثوري أنها استهدفت "مقر تجسس إسرائيلي" موجود في منطقة كردستان العراق، تسببت في توتر مؤقت للعلاقات بين بغداد وطهران، ولكن سرعان ما تم احتواء الغضب العراقي بسبب ما وصف بالانتهاك الإيراني الصارخ لسيادة البلاد، في موقف لا يعكس سوى حجم التعقيدات التي تغلف علاقات البلدين، حيث يصعب أن تغامر حكومة السوداني بالعلاقات مع إيران في ظل العوامل الحاكمة للمشهد السياسي العراقي، وما يموج به من هيمنة للفصائل الشيعية الموالية لإيران على قرارات البلاد، وبالتالي فإن استمرار الحكومة في إشهار العداء لإيران قد ينذر بأزمة سياسية داخلية قد لا يحتملها الوضع الداخلي العراقي.
الموضوعية تقتضي القول أن حكومة السوداني تمضي على حبل مشدود في إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الراهنة، ولا تريد أن تظهر بمظهر المتحالف مع أي من إيران أو الولايات المتحدة، ولكنها في الوقت ذاته لا تستطيع ان تخرج نفسها من دائرة الصراع غير المباشر بين الخصمين الاستراتيجيين، كما سيصبح العراق بالتبعية ساحة لإيصال الرسائل وتصفية الحسابات والانتقام، أي يصبح من دون إرادة منه ساحة لصراع بالوكالة في خضم دائرة جهنمية إيرانية ـ أمريكية من الفعل ورد الفعل، وبالتالي من المهم للغاية تفهم خلفيات الموقف العراقي، لاسيما أن حكومة السوداني قد حاولت هذه المرة الذهاب لأبعد مدى في التعبير عن الغضب حيال الانتهاك الإيراني لأراضي البلاد. ورغم أن البعض يعتبر أن هناك تحولاً في موقف الحكومة العراقية التي عادت للإشادة بالعلاقات الاستراتيجية المتميزة بين البلدين والتأكيد على أن كل خلاف بينهما يمكن تسويته من خلال الحوار، فإن هذا الأمر ينبغي أن يفهم كذلك في إطار سياسة الشد والجذب، التي تبدو خيار الضرورة في الموقف العراقي الحالي، حيث لا مناص من خطوة إلى الخلف طالما أن رسالة الغضب قد وصلت، ولاسيما أن سنوات التوغل الإيرانية في الشأن العراقي لا يمكن التخلص منها بموقف أو قرار واحد، بل تحتاج إلى سنوات من العمل والجهد سواء لضمان تعزيز سيادة العراق وتحصين وحدته الوطنية، أو للتخلص من كافة أشكال التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد العربي الكبير.