بات سؤال مابعد الحرب الشغل الشاغل للكثير من الأوساط والدوائر السياسية الغربية والعربية، حيث تتمحور معظم تصريحات المسؤولين الأمريكيين والإسرائيلين والعرب حول تصورات اليوم التالي للحرب، وتتناول التسريبات الإعلامية المنشورة في هذا الإطار الكثير من السيناريوهات، ولكن يبقى الموقفين الإسرائيلي والأمريكي الأكثر لفتاً للانتباه من بين مجمل التصورات المتداولة.
رؤية إسرائيل المعلنة رسمياً تدور حول البقاء في قطاع غزة لفترة من الوقت للانتهاء من تحقيق الأهداف العسكرية والأمنية المتوخاة من الحرب الدائرة مع حركة "حماس" الإرهابية، ومع استبعاد قطعي لأي دور للسلطة الفلسطينية، التي شن عليها رئيس الوزراء بنيامين نتيناهو مؤخراً، هجوماً حاداً واعتبر أنها تهديد وجودي مؤجل لإسرائيل، وأنها تمتلك نفس أجندة "حماس" الإرهابية وتريد تحقيقه بوسائل وآليات مغايرة، بل دعا إلى الاستعداد لحرب قد تشنها السلطة بالتنسيق مع "حماس"، وهي تصريحات ربما تبدو من حيث الدوافع والأغراض السياسية ولكنها لا تنفي أن هناك شرخاً عميقاً للغاية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بجميع رموزها.
الرؤية الاستراتيجية الأمريكية بشأن مصير قطاع غزة، قائمة على بناء تحالف إقليمي مدعوم أمريكياً لإدارة قطاع غزة، ورغم وجود تباينات في بعض التفاصيل، فإنها تتفق في مجملها على أن بعض دول مجلس التعاون ستتحمل تكلفة خطط إعادة إعمار قطاع غزة والمشاركة في إدارته أمنياً وسياسياً، مع اضطلاع دول إقليمية مثل الإمارات بدور محوري في بعض بنود هذه الخطة الأمريكية.
كنت قد ذكرت في مقال لي في منتصف نوفمبر الماضي أن التأثير الدولي والاقليمي على القرار الإسرائيلي فيما يخص مستقبل قطاع غزة سيكون مرهوناً بحصاد مايدور في قطاع غزة من صراع عسكري، وبالتالي من الصعب ترسيم حدود للأدوار خلال المستقبل المنظور، في وقت لم تزل فيه المعطيات العسكرية، التي سترسم الأدوار غائبة أو غير نهائية على الأقل؛ فالشواهد تقول أن إسرائيل قد فرضت رأيها بخصوص رفض أي وقف نهائي لإطلاق النار مع حركة "حماس" الإرهابية، ولم تنصع لأي ضغوط دولية في هذا الشأن، واستطاعت توجيه مسار الحرب وفق ما تقرره، واستطاعت جذب الدور والموقف الأمريكي بجانبها بحيث تماهى معها تماماً، وبالتالي يمكن القول بأنها ستكرر السيناريو ذاته في حال نجحت في فرض كلمتها عسكرياً بشكل نهائي على القطاع، وبالتالي فهي من ستقرر من يدير ماذا؟ وطبيعة وحدود أدوار كل طرف إقليمي أو دولي، وهنا يصعب القبول بفكرة قبول إسرائيل تسليم القطاع إلى أي طرف أو مجموعة على الأقل في المراحل الأولى عقب انتهاء الحرب ولحين انتهاء من تنفيذ المخطط، الذي تعتقد أنه يضمن أمنها ويحول دون تكرار سيناريو السابع من أكتوبر 2023.
وبالتالي فإن إسرائيل لن تقبل بأي سيناريو من السيناريوهات التي يجري تداولها حالياً بشأن مستقبل غزة بين الأطراف الدولية والإقليمية، بما في ذلك الأمريكية منها، في ظل ثقة إسرائيلية تامة في الحصول على الدعم الأمريكي الكامل لما ستقرره إسرائيل في هذا الشأن أياً ماكان، وهو أمر يمنح إسرائيل هامش مناورة كبيرة يدفع للقول بتلاشي فكرة بقاء قطاع غزة تحت إدارة كاملة لأي طرف فلسطيني أو وجود أطراف عربية أخرى، بفرض قبول أي دولة عربية القيام بهذا الدور وهو أمر مستبعد بشكل كبير ما لم تتوافر ظروف وشروط معينة، حيث لا يعتقد أن أي دولة عربية ستقبل بالتورط في مستنقع غزة وتحمل أعباء القطاع من دون الاتفاق على ضمانات وشروط محددة.
بلاشك هنا أن دولة الإمارات، بحكم كثرة تردد اسمها ضمن سيناريوهات متداولة بشأن اليوم التالي لحرب غزة، قد بادرت إلى ترسيم حدود دورها وموقفها في هذا الشأن، حيث أكدت الدولة على لسان المندوبة الدائمة لدى الأمم المتحدة لانا نسيبة في حديث مع صحيفة "وول ستريت جورنال" إنه يجب أن تكون هناك "خطة قابلة للتطبيق لحل الدولتين، وخريطة طريق جادة"، قبل التطرق إلى "اليوم التالي" وإعادة إعمار قطاع غزة"، وأضافت نسيبة إنه "من دون خريطة طريق لحل الدولتين لن نستثمر بشكل كامل في إعادة البناء ... ليس هذا المسار الذي وقعنا عليه اتفاقيات إبراهيم"، وهو موقف استراتيجي عقلاني ومفهوم تماماً في ضوء التجارب السابقة وأيضاً الظروف الجيوسياسية الراهنة، إذ لا يمكن أن تبقى موارد دول مجلس التعاون الخليجي مفتوحة أمام تحمل كلفة الخطط والقرارات الشريرة والكارثية التي يدرك الجميع من يقف ورائها، ومن ينفذها، وماذا يريد وكيف يفكر، لاسيما في ظل فشل كل التجارب السابقة التي تحملت فيها بعض دول مجلس التعاون الخليجي أعباء وفاتورة إعادة الإعمار ومولت مشروعات بالمليارات من دون أن يسهم ذلك في تحقيق الأمن أو يجلب الاستقرار الإقليمي.
دول مجلس التعاون تسعى لحل دائم للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ومن المهم ربط خطط إعادة الإعمار والدعم المالي والسياسي لهذه الخطط سواء في غزة أو الضفة الغربية بمسار سلام قابل للتطبيع مدعوم أمريكياً، حيث لا يفترض تجاهل حسابات ومصالح دول المجلس في أهمية الموائمة بين التزاماتها التاريخية الراسخة نحو الشعب الفلسطيني، وبين رغبتها الجادة في تحقيق السلام مع إسرائيل، وحيث عانت وتحملت هذه الدول الكثير من أجل القضية الفلسطينية، وفي كل أزمة يتم اتهامها إقليمياً من جانب دعاة الفتن ومروجي الفوضى باتهامات ومزاعم وادعاءات ليس لها أي نصيب من الصحة، ويروج لها إعلامياً ما يسى إلى سمعة ومكانة هذه الدول، التي تتبنى مساراً قائماً على تحقيق الأمن والاستقرار بعيداً عن المتاجرة بدماء الأبرياء والآمنين من أبناء الشعب الفلسطيني، ومن يضمن لجميع شعوب المنطقة، بما فيها إسرائيل، الحق في العيش بسلام وتعايش.
بلاشك أن بعض دول مجلس التعاون، وتحديداً الإمارات والسعودية، تمضي على خيط مشدود للغاية في أزمة غزة، وتبذل جهود مضنية من أجل حماية المدنيين الفلسطينيين ووقف نزيف الدماء، وما يبذل على الصعيد الدبلوماسي وعبر أروقة مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة من جانب ممثلي هاتين الدولتين تحديداً، يعكس الكثير من الجهود، التي لم تصل بعد إلى درجة تحقيق أهدافها، ولكن هذا لا يعني فشلها أو انكارها بالمرة، ومن غير المنطقي أن يتم تحميل دول مجلس التعاون فاتورة أخطاء الآخرين، أو يتم القفز إلى استنتاجات تلقائية بشأن "الخزائن الخليجية المفتوحة" لتمويل إعادة الإعمار ودفع فاتورة الآخرين في كل مرة يرتكب طرف فلسطيني ما حماقة أو جريمة تفتح أبواب الجحيم في غزة أو غيرها.