توسيع دائرة الصراع إقليمياً هو مضمون معظم التصريحات الإيرانية منذ اندلاع الصراع في غزة؛ ففي الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي حذر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من "خروج منطقة الشرق الأوسط عن السيطرة"" إذا لم توقف إسرائيل هجماتها على قطاع غزة، وفي مؤتمر صحفي بطهران، قال عبد اللهيان: "أحذّر الولايات المتحدة ووكيلتها إسرائيل إذا لم توقفا الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في غزة، فإن كل شيء محتمل في أية لحظة،
ويمكن أن يُخرج المنطقة عن السيطرة"، ورغم أن القلق الأمريكي انصب على احتمالية اشتعال الجبهة الشمالية لإسرائيل، فإن إيران اختارت أخف "الضررين" من زاوية الحسابات الجيوسياسية، ولاسيما ما يتعلق بتداعيات أي تصعيد للأوضاع إقليمياً على إيران، التي لا ترغب مطلقاً في الانخراط بشكل مباشر في صراع عسكري واسع مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، كما تدرك كذلك أن هناك احتمالية عالية للغاية لتدمير القدرات العملياتية لحزب الله في ظل تمركز قوة بحرية أمريكية ضخمة في البحر المتوسط، تضمنت حاملتي طائرات، وسفن دعم ونحو الفي جندي من "المارينز" للمساعدة في ردع أي هجمات يشنها "حزب الله" ضد إسرائيل بشكل موسع، ولذلك آثرت إيران إرسال إشارات أخف وطأة بشأن تهديداتها بتوسيع دائرة الصراع في الشرق الأوسط عبر بوابة باب المندب والذراع "الحوثي"، الأقل كلفة استراتيجياً وفقاً للحسابات الإيرانية.
بلاشك أن فشل الصواريخ الحوثية الموجهة إلى إسرائيل في تحقيق هدف الضغط على الولايات المتحدة لإجبار إسرائيل على وقف ملاحقتها لحركة "حماس" الارهابية في قطاع غزة، لعب دوراً حيوياً في تصعيد الإشارات الإيرانية عبر استهداف السفن الإسرائيلية ثم توسيع الدائرة لتشمل جميع السفن المتجهة لإسرائيل، في إطار سلسلة من الخطوات الإيرانية المحسوبة بدقة لا تخطئها عين مراقب، ضمن استراتيجية ردع إيرانية تهدف إلى حسم الصراع الاستراتيجي في الشرق الأوسط لمصلحتها، وبحيث تنتهي تماماً فكرة التطبيع العربي ـ الإسرائيلي ويتعزز موقف "محور المقاومة" فضلاً عن تحقيق أهداف استراتيجية أخرى بالغة الأهمية طالما سعت إليها طهران مثل "طرد الأساطيل الغربية من المياه الاقليمية".
في ضوء ماسبق، يمكن القول بأن سيناريو توسيع دائرة الصراع إقليمياً وارد بدرجة ما وفقاً لحسابات مخططي السياسات الإيرانية ومصالحهم ورؤيتهم للأمور وحسابات الربح والخسائر فيما يحدث سواء في غزة أو بقية نقاط التوتر الأخرى مثل الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية أو البحر الأحمر، ولكن في مجمل الأحوال تظل احتمالات تسخين هذه النقاط واردة بدرجة كبيرة لاسيما في حال اقتربت إسرائيل من تحقيق أهدافها في قطاع غزة، وهو ما يعني القضاء على أحد أهم أذرع إيران في الشرق الأوسط، وهذا كله يفسر ارتفاع منسوب تدخل الميلشيات الطائفية الإرهابية في العراق وسوريا في دائرة الصراع الجهنمية التي تديرها إيران عبر وكلاء وشبكة علاقات هلامية يصعب التثبت منها رغم ثبوت التحالفات ووضوح شبكة العلاقات بأدلة يقينية بين طهران ووكلائها.
تدرك إيران أن تدخل أذرعها الميلشياوية الإرهابية في المنطقة بدعوى الدفاع عن سكان غزة يسهم في جذب تعاطف الشعوب العربية والإسلامية ويغل أيدي وألسنة حكومات هذه الدول عن التفوه بالحقائق والتصدي للمخطط الخداعي الإيراني، الذي يضمر خلاف ما يعلن، ولذلك تتصرف طهران بأريحية نسبية، وتعمل في بيئة استراتيجية مواتية نسبياً، حيث نجحت في نقل الضغوط إلى العواصم العربية والغربية، بالإضافة إلى إسرائيل بطبيعة الحال، ولكن إيران لا ترغب مطلقاً ـ على الأقل في الوقت الراهن ـ في رفع منسوب الصراع والتوتر بما قد يفتح الباب أمام أخطاء الحسابات الاستراتيجية ـو بما يضعها في موقف اضطراري للدفاع مباشرة عن ذراع إقليمي رئيسي كحزب الله اللبناني، لذلك فإنها توسيع دائرة الصراع سيتم بشكل حذر للغاية، ولا يستهدف اتساعاً فعلياً للصراع، بل تعظيم الضغوط على الأطراف الإقليمية والدولية، مع مراوحة جبهة "حزب الله" تكتيكياً بين ارتفاع وانخفاض لوتيرة المواجهة على الحدود مع إسرائيل ومواصلة بث الرسائل الملتبسة بما يحول دون تعرض الحزب لضربة عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، وبما قد يرغم إيران على التدخل المباشر للحيلولة دون انهيار قوة الحزب الذي يعد أهم وأكبر استثمار لها في الشرق الأوسط.
هناك حسابات جيوسياسية أخرى قد تغري النظام الإيراني بدفع أذرعه لتوسيع الصراع إقليمياً، وتتمثل في تنامي قناعة طهران بأن هناك تحولات في مواقف الرأي العام العالمي والأمريكي ضد إسرائيل والإدارة الأمريكية الحالية، وهي قناعة قد يرى فيها الحرس الثوري بيئة مناسبة لاتخاذ قرار توسيع دائرة الصراع لزيادة الضغط على الجانب الإسرائيلي وتعزيز فرص هزيمة الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وذلك من دون خشية كبيرة من ردة فعل أمريكية في ظل الكوابح التقليدية القائمة لقرار البيت الأبيض، سواء ما هو تقليدي منها (حرص إدارة بايدن على تفادي خوض صراعات عسكرية) أو ما هو طارىء بفعل تحولات الداخل الأمريكي ومواقف القوى الكبرى مما يحدث في الشرق الأوسط.
بلاشك أن إيران اختارت الضغط من بوابة "البطن الرخوة" للاقتصاد العالمي، وهي حركة التجارة العالمية عبر باب المندب والبحر الأحمر، وهي تثق أن هذه البوابة لن تؤدي على الأرجح إلى مواجهات مباشرة مع الإيرانيين، وأن التعاطي فيها سيكون عبر التصدي للخطر الذي تتعرض له السفن التجارية، وحمايتها من دون خوض مواجهة مباشر مع ميلشيات الحوثي، حيث لا ترغب أي من الدول الكبرى التورط في اليمن وهي تدرك تماماً أن هذا الهدف ربما يكون محور اهتمام إيراني، وربما يحظى أيضاً بترحيب من منافسين استراتيجيين آخرين في إطار المنافسة والصراع العالمي الدائر على الهيمنة والنفوذ وإعادة ترسيم قواعد النظام العالمي في مرحلة ما بعد الأوبئة والصراعات الدائرة في مناطق حيوية مثل أوكرانيا وغزة وغيرها.
الواقع يقول ان ثمة أخطاء استراتيجية أمريكية ارتكبت ويصعب انكارها مثل الغاء إدارة الرئيس بايدن تصنيف ميلشيا الحوثي كجماعة ارهابية، ومن بينها كذلك حالة الصمت والتردد وعدم وجود أي رد فعل دولي جاد حين استهدفت هذه الميلشيات منشآت نفطية حيوية في المملكة العربية السعودية والإمارات، وهي ممارسات شجعت هذه الميلشيات وداعميها على مواصلة سلوكها السيء في نشر الفوضى والاضطرابات، ومحصلة ذلك كله ما نراه الآن وما يؤكد أن احتمالات توسيع دائرة الصراع إقليمياً باتت للأسف بيد إيران، وكلها مؤشرات تشير إلى أنه طالما أن هذه الشبكة من الأذرع الميلشياوية الإرهابية قائمة، فإن احتمالات توسيع الصراعات ستبقى قائمة بغض النظر عن غزة أو شعبها، والمعضلة الحقيقية ستبقى في وكلاء إيران وأذرعها التي تعمل في إطار واضح من التنسيق المشترك والارتباطات التنظيمية والفكرية والأيديولوجية المتزايدة بين هذه الميلشيات الارهابية وبعضها البعض، حتى أنها باتت تهدد بإشعال حروب اقليمية وقتما تريد ومن أي بوابة ترغب!.