في الأوقات الأولى التي أعقبت وقوع هجوم القدس صباح الخميس الثلاثين من نوفمبر، والذي تسبب في مقتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة آخرين، وقبل الاعلان عن هوية منفذي الهجوم، تبادر إلى ذهني أن يكون الهجوم من ضمن عمليات "الذئاب المنفردة"، لأنه بالمنطق والحسابات الاستراتيجية البسيطة لا يمكن لأي عاقل أن يتخيل أن تخطط أياً من حركتي "حماس" أو "الجهاد" الفلسطينيتين في تنفيذ عملية كهذه في ظل جهود إقليمية ودولية كبيرة تبذل من أجل تمديد الهدنة الإنسانية لأيام أخرى، وضغوط دولية قوية للغاية على إسرائيل باتجاه القبول بتحويل الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار!
حتى وقت كتابة هذه السطور في نهاية اليوم السابع من الهدنة الانسانية، يبدو المشهد الإستراتيجي اليوم مختلفاً عن الأمس، حيث خلّف هجوم القدس آثار سلبية عميقة للغاية على آفاق التهدئة، وتلاشى جزء كبير من تفاؤل المراقبين والمحللين بامكانية تحول الهدنة إلى إتفاق طويل الأجل لوقف إطلاق النار، حيث يلاحظ اختلاف نبرة الخطاب الإسرائيلي وارتفاع لهجة الحرب مجدداً جراء الحرج البالغ الذي وجد المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم فيه إثر وقوع هجوم فلسطيني جديد وسط المدنيين، ناهيك عن الخطاب السياسي الأمريكي وعودة البيت الأبيض على لسان جون كيربي مستشار الأمن القومي للحديث عن دعم واشنطن لخيار حكومة نتنياهو "إن قررت مواصلة الحرب"، وهو موقف أمريكي معلوم مسبقاً، ولكن علينا الاعتراف بأنه توارى قليلاً خلال أيام الهدن لمصلحة تغليب خطاب الدعوة للتهدئة والسعي لوقف دائم للحرب.
المفاجىء في الموضوع أن حركة "حماس" قد أعلنت بعد ساعات من هجوم القدس، عن تبني العملية ودعت إلى التصعيد، وقالت الحركة في بيان لها "نزف شهيدينا القساميين مراد وإبراهيم النمر منفذا العملية الفدائية" وأضافت "على المحتل أن يتحسس رأسه في كل مدينة وقرية وشارع وزقاق فأبطالنا مستنفرون للثأر"، وبمنتهى الموضوعية نقول أنه لا يوجد سبباً مقنعاً واحداً لتنفيذ هذا الهجوم الذي استهدف مدنيين جدد في توقيت كهذا، وهناك اعتبارات عدة تنزع أي مبرر عن هذا الهجوم الكارثي أولها أن الهجوم جاء في وقت تتدعي فيه "حماس" نفسها تحقيق "النصر" على إسرائيل وتحتفل باستعادة بضعة عشرات من المسجونين ولا تبالي بأكثر من 15 ألف من الأبرياء الفلسطينيين راحوا ضحايا جراء عملية "طوفان الأقصى"، وثاني هذه الاعتبارات أن مؤيدي حركة "حماس" ومنصاتهم الإعلامية يروجون لما يصفونه بتعاطف إقليمي ودولي واسع النطاق مع القضية الفلسطينية بسبب الحراك الذي أحدثته حركة "حماس"، كما يرى هؤلاء أن الحركة كسبت "معركة الصورة" والحرب النفسية مع إسرائيل على خلفية المشاهد المصورة التي تثبها الحركة لتسليم الأسرى، وحرص عناصرها على إخراج المشهد في إطار استعراضي يبرز "الجوانب الانسانية" في علاقتهم بهؤلاء الأسرى! ولو سلمنا ـ جدلاً ـ بصحة كل هذه المزاعم وأنها واقعية وصائبة كما يزعم مروجوها من مؤيدي "حماس" فكيف لمن حقق كل هذه "الانتصارات" المزعومة أن ينفذ عملية ارهابية تدمر كل حققه وتشوه صورته وتعيد التعاطف الدولي المزعوم إلى المربع الأول؟!
ليس هناك إذن سبب واحد لتنفيذ عملية القدس، التي لا يمكن لأحد الادعاء بأنها تصب في مصلحة حركة "حماس" ناهيك عن مصلحة الشعب الفلسطيني، فهي عملية كارثية بامتياز في التوقيت والنتائج والتداعيات المحتملة، والمسألة لا علاقة لها بإرسال رسائل للحكومة الإسرائيلية أو غيرها فالرسائل التي انطوت عليها العملية هي في واقع الأمر تصب في مصلحة هذه الحكومة الإسرائيلية، بل يمكن القول بأنها هدية مجانية لها للتخلص من الضغوط الداعية لوقف الحرب وعدم استئنافها مجدداً، والاكتفاء بما تم واستغلال أجواء الهدن الانسانية في تبريد الأجواء وصولاً إلى وقف دائم لإطلاق النار.
تسلسل الأحداث يشير إلى أن هناك انفصال تام بين القيادتين العسكرية والسياسية في حركة "حماس" وأن كلا منهما تعمل بمعزل عن الأخرى، أو أن هناك غياب للتنسيق وربما تنافس وصراع على اتخاذ القرار في ظل تعدد مراكز صناعة القرار داخل الحركة واحتمالية بروز مثل هذا الإرباك وسوء التخطيط والتوجيه في ظروف كهذه، ولكن بافتراض أن الأمور تمضي على مايرام وأن هناك تسلسل قيادي وافق على تنفيذ هجوم القدس، فإننا بصدد ميلشيا شيطانية لا تفقه حتى مصلحتها ولا تفرق بين الأبيض والأسود وبالتالي ليس لديها القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة للحركة نفسها، وهو قرارات لها ارتباط مباشر بحياة ومصالح هؤلاء القادة الميدانيين محدودي الخبرة ويفتقرون إلى الوعي والفهم اللازم لتوجيه بوصلة أنشطة الحركة، فما بالنا بالشعب الفلسطيني ككل!
هجوم القدس ضد مستوطنين إسرائيليين هو نموذج على نمط تفكير الميلشيات الإرهابية بشكل عام، فهي تمتلك تفكيراً عبثياً قاصراً لا يفرق بين أنشطة العصابات الإجرامية وأجندة العمل المفترضة لمن يزعمون أنهم حركات تحرر وطني ومقاومين" يفترض امتلاكهم أجندة واضحة للحفاظ على شرعية انشطتهم وعملهم وبما يضمن الاحتفاظ بالدعم الدولي والاقليمي من خلال الحرص على مشروعية أنشطتها والتزامها بالدفاع عن قضيتها في إطار من القانون والأعراف الدولية التي تتنافر تماماً مع فكر وأنشطة وجرائم الإرهاب والاعتداء على المدنيين.
من قام باتخاذ قرار هجوم السابع من أكتوبر من دون أن يفكر في سيناريوهات مابعد العملية ويستعد لها ويقدر رد فعل الحكومة الإسرائيلية المتوقع بحسب الشواهد والمؤشرات والظروف والمعطيات السياسية المتاحة، ويضع السيناريوهات المناسبة لكل ذلك وفقا لتقديرات استراتيجية دقيقة حفاظاً على مصالح الشعب الفلسطيني وحقناً لدماء أبنائه، ومن دون أن يفكر في أهداف واقعية للهجوم حتى أن حركة "حماس" تطالب بإطلاق سجناء وتتجاهل عشرات الآلآف من الضحايا والمصابين جراء فعلتها الشنيعة، لذا فإن العقلية السيكوباتية التي اتخذت ذلك القرار السابق هي ذاتها من اتخذت قرار هجوم القدس الكارثي الذي خلط ما تبقى من أوراق ومنح حكومة نتنياهو سبباً قوياً لاستئناف الحرب من دون أن يجد دعاة السلام والاستقرار مبرراً كافياً لاقناع الطرف الإسرائيلي بالتخلي عن فكرة استئناف الحرب في غزة مجدداً.