لم تكن ردود أفعال حركة "حماس" الإرهابية ومؤيديها وبقية الميلشيات الإرهابية الموالية لإيران في لبنان والعراق واليمن بل وإيران نفسها، عقب التوصل إلى هدنة انسانية في قطاع، حيث اعتبر هؤلاء جميعاً اتفاق الهدنة بمنزلة "انتصار عسكري كبير"، وهذا أمر متوقع في ضوء تجارب صراعية سابقة لهذه الميلشيات الإرهابية، ولكن هذه المرة يبدو الأمر مستغرباً أكثر من ذي قبل لأن المواجهات لم تنته، وهناك توعد إسرائيلي بمواصلة الحرب بعد فترة الهدنة!
مشاهد الدمار الهائل في غزة تتنافر بشدة مع فكرة ادعاء النصر، وأعداد الضحايا الأبرياء التي تجاوزت 15 ألفاً تستوجب الحزن والألم ومراجعة النفس لا التهليل والفرح وادعاء البطولة، ولكنها معايير الميلشيات الإرهابية التي كتبنا عنها مرات عديدة سالفاً، والتي تعني أن بقاء قادة الميلشيا على قيد الحياة هو النصر بعينه، فبقاء حسن نصر الله والنسوار وهنية وغيرهم بعد انتهاء المعارك سواء كانوا في أنفاق أو في خارج ساحات القتال من الأساس، هو معيار النصر الأساسي بغض النظر عن دمار وخراب بيروت ومدن لبنانية عدة في مرات سابقة، أو دمار غزة بهذا الشكل غير المسبوق في الصراع الذي اندلع عقب هجوم "حماس" الإرهابي على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي.
في إطار هذا النقاش يجب أن نفصل بين أمرين مهمين أولهما الموقف من الشعب الفلسطيني الذي لا حيلة له ولكنه يعاني ويدفع كلفة قرارات إيران ووكلائها، وثانيهما الموقف من الميلشيات الإرهابية التي تنفذ أجندات بعضها يخدم مصالح قادتها والأيدلوجيات المتطرفة وبعضها الآخر يخدم مصالح مموليها وداعميها الاقليميين في طهران، وهنا لا يجب خلط الأوراق بالمرة فنحن عندما نستنكر ما تفعله الميلشيات الإرهابية فإن هذا الموقف ينطلق من تعاطف مع كل الأطراف المدنية ومع كل الذين يستحقون حياة آمنة لائقة في بيئة سلام.
البعض يقول إن هناك دعماً داخلياً للمليشيات الإرهابية بين أبناء الشعب الفلسطيني، وهذا أمر ملتبس كثيراً لأن الكل يعرف القبضة الحديدية التي تدار بها المناطق الخاضعة لحكم حركة "حماس" الإرهابية، وكيفية سيطرتها على كافة سبل ومقومات الحياة في قطاع غزة، بما يعني أن من يرفض سيطرة "حماس" عليه أن يواجه عواقب شديدة، وبالتالي ليس من الموضوعية أن المنطق والعقل الاعتماد على نتائج انتخابات جرت قبل نحو عقدين من الزمان في بناء أحكام قطعية على مواقف سكان غزة تجاه حكم "حماس" أو سياساتها.
بلاشك أن تكرار سيناريوهات الماضي والتي تتردد حالياً إعلامياً وعلى ألسنة الكثيرين هي وصفة مثالية لإعادة الكرة من دون تحقيق الأمن والاستقرار والسلام المستدام، بمعنى أن انتظار انتهاء الحرب الحالية ثم بدء جولة جديدة من إعادة الإعمار والذي تدفع فاتورته وتموله دائما دول "الخليج العربية" على غرار ما حدث سابقاً مرات عدة هو تكرار لسيناريو ثبت فشله، بل إنه يغري بعض الأطراف الإقليمية بالتمادي وبمواصلة إشعال الصراعات وصب الزيت على النار كلما سنحت الفرصة لذلك كون هذه الأطراف الإقليمية لا تتحمل كلفة سلوكها وسياساتها ومواقفها، وتكتفي فقط بتحويل الأراضي الفلسطينية وسكانها وغيرها من نقاط المواجهة مع إسرائيل إلى ساحات اختبار للأسلحة والإرادات والأيديولوجيات وتلميع الصورة وتحقيق انتصارات إعلامية ودعائية زائفة، فضلاً عن أن دول الخليج العربي إكتفت من كونها هي من تدفع فاتورة الآخرين ولم تعد تتقبل فكرة تحمل أعباء وثمن أخطاء الآخرين، وبات لها أولويات تنموية كبرى تتطلب تمويلاً هائلاً لا يجعلها قادرة على تمويل خطط إعادة إعمار كبرى في غزة أو غيرها.
ما العمل إذن؟ الحقيقة أن المحاسبة الدولية وتحديد المسؤوليات عما حدث يفترض أن يكون الأساس لإعادة ترتيب أوراق القضية الفلسطينية، حيث لا يفترض أن تبقى الدول والأنظمة العربية أسيرة المزايدين والمغامرين الذين يشعلون الحرائق ويدفعون في اتجاه العنف وسفك الدماء وكلهم ثقة في أن هناك من هو مستعد وجاهز لدفع "فاتورة باهضة" لأفعالهم الإجرامية. وفي ظل حالة الترهل والضعف الذي تعاني منها المؤسسات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وهي حالة مزمنة وتفاقمت في السنوات الأخيرة وانكشفت بشدة في أزمتي أوكرانيا وغزة، فإن من الصعب الرهان على دور هذه المؤسسات في التصدي لسلوكيات دول وأطراف إقليمية مثل إيران وأذرعها الميلشياوية الإرهابية، أو حتى تسمية الأمور بمسمياتها الدقيقة الواضحة، وكشف الحقائق وعدم ترك شعوب المنطقة والرأي العام العالمي مشتتاً بين حقيقة يراها الجميع وهي ارتباط هذه الأذرع بشكل وثيق بإيران، ودعاية تنشرها طهران بأن هذه الأذرع تتصرف من تلقاء نفسها ووفقاً لمصالحها ورؤاها الاستراتيجية!.
تحولت غزة بعد التوصل إلى اتفاق هدنة انسانية إلى مادة جديدة للمزايدات وادعاء النصر من دون أن يكون هناك أي اعتبار للكلفة البشرية والمادية الهائلة لهذه الادعاءات المزعومة التي تروج لها طهران و"حماس" الإرهابية والمنصات الإعلامية الممولة من تنظيم "الإخوان المسلمين" الإرهابي، وكل هذه الطوائف المتطرفة التي لا تقيم اعتباراً لا للبشر ولا حتى للحجر.