رغم البكائيات المنثورة على دماء المدنيين والعزل من أبناء الشعب الفلسطيني، ورغم حالة الحشد العاطفي المحمومة التي تشنها تنظيمات وجماعات أيديولوجية إرهابية بالتنسيق مع بعض الدول الاقليمية، فإن القضية الفلسطينية تواجه أخطر منزلق في تاريخها، فالقضية نفسها باتت مهددة بالاندثار وهناك توجه نحو تحويلها إلى عنوان فرعي في صراع كبير يطغي عليه الجانب الديني برعاية إيرانية صرفة.
تتحول القضية الفلسطينية تدريجياً أيضاً إلى مادة في الصراع الدائر بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية وما يسمى بمحور "المقاومة" الذي تقود إيران، وهو صراع سيتحول إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات في حال نجح هذا المحور في انهاء الصراع الدائر في غزة لمصلحته. واللافت هنا أن "حماس" الإرهابية ارتكبت خطيئة تاريخية حين لم تنتبه إلى خطورة وتبعات نزع الهوية عن القضية الفلسطينية والتورط في العمل ضمن محور إقليمي يسعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية لا علاقة لها بالقضية والشعب الفلسطيني وإنما بأهداف تتصل بضمان المكانة والنفوذ لإيران وحلفائها من التنظيمات والميلشيات. حصر القضية الفلسطينية في صراع "حماس" الإرهابية وإسرائيل هو الجريمة الأخطر التي ارتكبتها الحركة بإيعاز من طهران، فلم يعد أحد يتحدث عن مصير الشعب الفلسطيني ولا تسمع أحد يتكلم عن مستقبل القدس، ولا عن أراضي 1967، ولا اللاجئين ولا غير ذلك من ثوابت الملف الفلسطيني، بل بات الحديث متمحوراً حول مستقبل غزة نفسها ومن يديرها، ومن يتولى المسؤولية الأمنية فيها، وعن المستشفيات وأين تقام وكيف تمول، وعن توفير الطعام والغذاء، والأهم من هذا وذاك برأي "حماس" وشركائها، هو مصير المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية!
ما كان أي عاقل يخشاه منذ السابع من أكتوبر الماضي هو أن تختزل القضية الفلسطينية في صراع غزة، وأن تتحول الجهود والمساعي العربية والدولية ـ بغض النظر عن فاعليتها وحدود تأثيرها ـ من البحث عن تسوية نهائية عادلة للقضية الفلسطينية إلى سعي حثيث لإخراج القوات الإسرائيل إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر 2023، ما يحول مسار القضية برمتها بحيث تتحول كلياً إلى قضية انسانية بحتة، شأنها شأن قضايا دولية عديدة يريد أصحابها الحصول على هويات في أي دولة وكفى!
ندرك أننا نكتب في التوقيت الخاطىء لأنه لا أحد عربياً يريد أن يسمع صوت العقل، والكل يبحث عن "بطل" ويفاخر ببطولات "أبو عبيدة" (المتحدث باسم كتائب "القسام") في ردة للوراء تذكرنا بما فعله بن لادن ورفاقه في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حين هلل السذج والبسطاء والاغبياء لتدمير برج التجارة العالمي بنيويورك، ولم ينتبه أحدهم للثمن الرهيب الذي ستدفعه الشعوب الإسلامية جراء هذه الاعتداءات الآثمة.
الأمانة تقتضي أن ندق أجراس الخطر من ضياع القضية الفلسطينية وتحولها من قضية حقوقية عادلة إلى ملف انساني وعنوان فرعي ضمن عناوين الصراع الاستراتيجي الإقليمي والدولي بغرض ترسيم قواعد النظام العالمي الجديد. وهنا نعتقد أن الأطراف الفلسطينية جميعها مسؤولة عما يحدث وليست "حماس" فقط، وإن كانت هي الطرف الذي دفع بالأمور إلى الهاوية الحالية، فالسلطة أيضاً تبدو غير منتبهة إلى السيناريو الخطير الذي يهدد القضية والشعب الفلسطيني، ولا يهمها سوى الحصول على "كعكة" غزة والانتقام من أعدائها "الحمساويون"، واثبات دورها كممثل وحيد عن الشعب الفلسطيني، ولكنها لا تمتلك تصوراً حقيقياً لإدارة الأزمة ولم تشغل نفسها بوضع بدائل تضمن تسوية وضع ما بعد الحرب بما يضمن استمرار بقاء غزة ضمن الأراضي الفلسطينية كما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر، وتكتفي فقط بمناشدة الأطراف الدولية ومطالبتها بأن تكفل لها حكم غزة ما بعد الحرب!
جريمة أصحاب القرار الفلسطيني لم تبدأ في "طوفان الأقصى"، بل بدأت حين تحالفت "حماس" الإرهابية ولا تزال مع طهران وبقية أذرع ما يسمى بـ"محور المقاومة"، ولم تنتبه إلى خطورة تحولها من حركة نضال وطني مشروع إلى "ترس" في آلة الارهاب الطائفي الذي تديره إيران، وبدأت كذلك حين صمت الجميع على تنامي قوة الميلشيات الإرهابية بما فيها "حماس" و"حزب الله" حتى تحولت إلى تهديد تتحسب له القوة الأعظم عالمياً (!)، واستغلت هذه التنظيمات الإرهابية السنوات الطويلة الماضية في تعزيز قدراتها وتطوير قواتها حتى خرجت بأزمة وقف الجميع عاجزاً أمامها.
لا أحد يحب البكاء على اللبن المسكوب، ولكننا نكتب لأننا نرى الخطأ يتواصل ولا تزال يد إيران هي الأعلى ولها الكلمة العليا في التحكم بدفة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، والكل يتابع إطلاق الصواريخ من اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة من دون أن يمتلك حلولاً، ولو أن الصراع في غزة انتهى، لخرج كل هؤلاء يهتفون ويحتفلون بتحقيق نصر وهمي على جثث أكثر من عشرات الآلاف من الضحايا. الكل ينتظر أن تأتي الحلول من الولايات المتحدة، والكل يعلم كذلك أن إدارة الرئيس بايدن لم تستطع خوض صراع عسكري منذ توليها السلطة، فكيف لها أن تقرر خوض صراع وهي تستعد لانتخابات رئاسية تطمح من خلالها للحصول على ولاية رئاسية ثانية، لا ادعو هنا لمواقف عربية غير واقعية أو خارج حدود المنطق والمعقول، ولانحمل أحد بعينه مسؤولية هذه التراكمات التاريخية التي شارك الجميع اقليمياً ودولياً في وجودها وترسخها واستمرارها، ولكن ليس من المنطق ألا تسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، وأن تدرك كل الأطراف أن تشخيص الواقع بدقة هو البداية الصحيحة للعلاج، الذي يبدأ بعلاج الأسباب لا الأعراض.