الكارثة الجيواستراتيجية الحقيقية التي تحدث أمام أعين الجميع في منطقة الشرق الأوسط ليست فقط في الصراع العسكري الدامي بين إسرائيل وحركة "حماس" الفلسطينية الإرهابية، ولكنها تتمثل بالأساس في وقوع مصير هذه المنطقة بأيدي الميلشيات والتنظيمات الإرهابية، التي يعرف الجميع أنها ليست سوى دمى بيد من يحركها في إيران، والأمر هنا لا يقتصر على غزة، فلا يجب أن ننسى هلع الجميع من دخول "حزب الله" اللبناني على خط الأزمة، ولا يجب أن ينسى الجميع كذلك أن الولايات المتحدة تتصدى بقواتها في البحر الأحمر لمحاولات "الحوثي" الانخراط في هذه الحرب بإطلاق الصواريخ من الأراضي اليمنية، وكذلك تفعل الميلشيات الشيعية الإرهابية الموالية لإيران والمنتشرة في سوريا والعراق!
إنها الفوضى الاقليمية التي سمحت القوى الكبرى بأن تتوسع وتترعرع في ظل أوهام احتواء النفوذ الإيراني وخديعة "خطة العمل المشتركة" التي تمثل البوابة الكبرى التي دخلت منها إيران لمرحلة التوسع ونشر الفوضى إقليمياً من دون أي كابح أو رادع بداعي محدودية قوة هذه الميلشيات الإرهابية التي تضخمت قوتها واستفحلت حتى بات كبح جماحها بحاجة إلى تحريك حاملات طائرات أمريكية متطورة!
قلنا مراراً وتكراراً أن المواجهات بين "حماس" وإسرائيل لن تتوقف، وأن من الخطر غض الطرف عن تضخم هذه الميلشيات الإرهابية واعتبار خطرها محدوداً أو أنه يمكن توظيفها بشكل غير مباشر لاستنزاف أو مناكفة دول عربية والضغط عليها، فالجميع يعرف أن أكثر ما يضر بالقضية الفلسطينية العادلة على مر التاريخ أن يلتف حولها ويرفع شعاراتها المزايدون والمتطرفون، وأن يتاجر كل هؤلاء بآلام ومعاناة شعب يدفع فاتورة هذه المتاجرة غالياً من دماء أبنائه، لاسيما أن هذه التنظيمات والميلشيات الإرهابية لم ولن تقدم شيئاً للشعب الفلسطيني.
لقد حذرنا مراراً من تفشي وباء الميلشيات والتنظيمات الإرهابية، حيث أصبح بعضها يتحكم في مصائر دول عربية عدة منها اليمن وليبيا وجزء كبيراً من الأراضي السورية، ناهيك عن الدور المشبوه الذي تلعبه الأذرع الميلشياوية الايرانية في الأراضي الفلسطينية ودول مثل لبنان والعراق، وقلنا كذلك أن بقاء الأوضاع على حالها في منطقتنا، يغري الميلشيات بالمغامرة والسعي لكسب المزيد من القوة والنفوذ، وأن استئصال آفة الميلشيات والتنظيمات من منطقة الشرق الأوسط، يمثل خطوة ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار، وأن العنف سيستمر والفوضى والاضطرابات ستبقى العلامة الأبرز في المنطقة طالما ظل القضاء على الميلشيات والتنظيمات غائب عن أولويات المجتمع الدولي.
في جرد خسائر ما يحدث من حولنا يجد المرء نفسه أمام كارثة استراتيجية حقيقية بسبب ضيق الأفق في فهم ما وراء هذه الغابة من الميلشيات الإرهابية التي نشرتها إيران في مناطق كثيرة من العالم العربي، فما حدث هو أن تغييراً نوعياً حقيقياً قد حدث في الشرق الأوسط، حيث تلاشت جهود سنوات طويلة من الاستثمار في غرس ثقافة التعايش والسلام، وعادت لغة العداء والعنف إلى الواجهة في منطقة هي بالأساس بيئة اقليمية مسكونة بأفكار التطرف والعنف والإرهاب في الكثير من مناطقها بسبب عوامل عديدة معقدة بعضها اقتصادي، وبعضها سياسي وبعضها الآخر تنموي وثقافي وديني، وبات من الصعب للغاية أن يستفيق دعاة السلام والتسامح للحديث مجدداً عن الحوار وقبول الآخر وغير ذلك مما حاولت بعض الأطراف الاقليمية غرسه في هذه الأرض التي تشبعت على مدار عقود وسنوات من العنف وسفك الدماء!
نعم شرق أوسط مابعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، والأفق ليس واضحاً بعد لأن الصراع الدائر في غزة لم يصل إلى ذروته بعد، ويبدو أن هناك الكثير من التطورات التي ستسهم في رسم سيناريو المرحلة الشرق أوسطية المقبلة، والأمر هنا لا يقتصر على غزة، فقد اتسع نطاق الأزمة وبات يشمل جميع دول وشعوب المنطقة، واختلط الحابل بالنابل، وعادت إلى الواجهة لغة الحروب والتهديدات والشعارات والمزايدات، وبات من الصعب التكهن بما يحمله المستقبل ليس للقضية الفلسطينية فقط، بل للمنطقة بأكملها.
الكرة الشرق أوسطية الآن للأسف في ملعب نصر الله ومشعل والحوثي ومن يؤتمرون بأمره من قيادات الحرس الثوري الإيراني، والخسائر الاستراتيجية لن تقتصر على الأمن والاستقرار الاقليمي، بل قد تطال استقرار دول الاقليم ومستقبلها، وعلينا أن نترقب جولة جديدة من الارهاب والعنف لا تقتصر على منطقة بعينها، ففي ظل حالة الفوضى والانقسام الدولي يتوقع ظهور جيلاً أشد شراسة من جماعات الارهاب التي ستدفع العالم أجمع إلى حافة هاوية جديدة من الصراعات الدينية.