في الكثير من أرجاء العالم العربي، بات مشهد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية مألوفاً، يراوح بين الميل إلى العنف والغضب تارة، وبين التعبير عن الرأي عبر أدوات سلمية بل واحتفالية (كما في الحالة اللبنانية) تارة أخرى، وبين هذا وذاك تبقى أسباب الاحتجاج والغضب الشعبي بين عوامل تكاد تكون متشابهة أولها فشل الساسة الطائفيين والسياسات الطائفية في بناء الدول وتوفير أسباب الحياة الكريمة لهذه الشعوب، وثانيها ضعف التنمية وانتشار الفساد والمحسوبية وسوء الادارة وربما غيابها تماماً عن الدول التي تشهد موجات الغضب والاحتجاج.
كقاعدة عامة لا تختلف فيها الشعوب مهما اختلفت الجغرافيا وتباعدت المسافات، الناس تحتاج دائماً إلى سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن لها حد مناسب من العيش الكريم، فالأساس في حياة الشعوب هو الممارسات السياسية ذات الصلة المباشرة والاثر الإيجابي على حياتهم اليومية، وبالتالي فالانتخابات والحريات وغير ذلك من مظاهر الديمقراطية ليست كافية لتهدئة غضب الشارع في حال لم تكن وسيلة أو مدخلاً للتنمية والازدهار الاقتصادي، فلا يعني أن تنظيم انتخابات أو توافر حالة من حرية التعبير وغير ذلك ستكون ضمانة أو "مصل" ضد الغضب والاحتجاج الشعبي، فهذه كلها لا تحول دون انفجار الغضب في حال لم يتوافر بالأخير للشباب فرص العمل والدخل المناسب ويشعر الجميع بوجود دور تنموي حقيقي للدولة.
هناك أيضاً قواسم مشتركة بين الاحتجاجات التي تجتاح مناطق شتى من العالم في المرحلة الراهنة، منها تآكل الطبقة الوسطى وانحدارها بسبب عوامل تختلف من بلد لآخر، ولكنها تؤدي النتيجة ذاتها، وهذه الطبقة هي الركيزة الأساسية للمجتمعات وتراجع دورها واضمحلاله يعني اتساع الفجوة الطبقية بما يعنيه ذلك من نذر الغضب وانحسار مناعة المجتمعات في مواجهة عوامل التفكك والانهيار.
في الحالتين العراقية واللبنانية تحديداً، ظهرت أجيال جديدة تعبر عن غضبها من السياسات الطائفية التي تطغى على المشهد السياسي في هذين البلدين العربيين، ولم يعد الشارع يلقي بالاً لدعوات التهدئة التي يصدرها الساسة الطائفيين، وبات تأثير الفقر والبطالة أقوى من تأثير دغدغة المشاعر والعواطف والسلطة الطائفية التي توجه دفة القرار.
السياسات الطائفية لم تثمر سوى الفشل وغياب هوية الدول بل ومقوماتها الرئيسية، فنجد ملالي إيران على سبيل المثال يتحدثون على بلد عربي عريق كالعراق وكأنه محافظة من المحافظات الإيرانية التي يسمح لهم فيها بملاحقة أعدائهم من دون مراعاة لوجود حكومات وساسة ومؤسسات تدير هذا البلد!
لا يمكن لشعوب بأكملها أن ترتهن واقعها ومستقبلها لميلشيات تابعة لدول أخرى، ولا يمكن من الأساس لميلشيات أن تأسر هذه الشعوب وترهنها لأجندتها التي تنفذ تعليمات عابرة للحدود والسيادة الوطنية، فهذه أمور لا يمكن لملايين الشباب ممن يتطلعون إلى الحصول على فرص عمل والتطلع للمستقبل، القبول بها.
وإذا كان النظام الإيراني قادر على قمع شعبه عبر قبضة حديدية للحرس الثوري، فإن هذه السياسات لا يمكن استنساخها في دول أخرى، بل هي سياسات لا مستقبل لها سواء في إيران ذاتها وفي غيرها من الدول التي تصور الملالي لسنوات مضت أن بإمكانهم السيطرة على مقدراتها واختطاف واقعها ومستقبلها.
التظاهرات الغاضبة في العراق ولبنان وغيرها لم تنتصر لحزب أو لفريق سياسي معين بل انتصرت للدولة الوطنية، ورفعت علمها وشعارها، وطالبت بان يعول صوت هذه الدولة على ما عداه من الأصوات الطائفية أو المذهبية أو المصالحية؛ والرسالة الحقيقية للتظاهرات والاحتجاجات ليست في الشكوى من الفقر والفساد والبطالة وتدهور الأحوال المعيشية، بل هي بالأساس في رغبة ملايين الشباب العربي في الاحتجاج على الوجوه السياسية التي ثبت فشلها واستعادة دولهم المختطفة وعودتها لممارسة دورها الطبيعي.
الحقيقة أن هذه التظاهرات ليست مفاجئة لمن يتابع أحوال الدول والشعوب العربية عن كثب، بل تنذر بها نتائج استطلاعات الرأي التي تجرى بين الفينة والأخرى، ومنها الاستطلاع الذي أجرته شبكة "البارومتر العربي" ونشرت "بي بي سي" نتائجه منذ فترة، وأشارت نتائج هذا الاستطلاع الذي شارك فيه أكثر من 25 ألفاً من سكان عشر دول عربية إلى أمور عدة أولها ارتفاع متوسط نسبة الشباب العربي الذي يرغب في الهجرة إلى نحو 20%، والسبب الرئيسي لذلك هو الوضع الاقتصادي والفساد، ما دفع نحو نصف العينة من الشباب في دول عربية محددة للإعراب عن رغبتهم في الهجرة!
ثمة إشارة لافتة في أن النسبة الأكبر من العراقيين واليمنيين المشاركين في الاستطلاع قد اعتبروا إيران التهديد الأكبر لدولهم (31%، 33% على التوالي) وهذا يعكس مدى وعي الشعوب واستشعارها بما يهددها من أخطار ربما يتجاهلها الساسة لأسباب لا علاقة لها بالوطنية بقدر ارتباطها بالولاءات الطائفية والمصالحية!
ماذا يعني أن يرغب نحو نصف عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين في الهجرة، وأن عدد الراغبين في الهجرة ضمن هذه الفئة يتصاعد بشكل ملحوظ مقارنة بنتائج الاستطلاعات السابقة؟! هل يعني ذلك أن نصل لوقت يعبر عن فيه غالبية هذه الشعوب عن رغبتها في الهجرة وترك البلاد؟!
وثمة مؤشر لافت يقول إن نحو 43% من الشباب في بعض الدول العربية على استعداد للسفر بدون أوراق رسمية، أي انهم جاهزون للانضمام إلى عمليات لجوء أو هجرة غير شرعية!
على الحكومات العربية أن تقرأ واقع الشعوب جيداً، فهناك متغيرات طارئة يجب التعامل معها، فنصف مستخدمي الانترنت في عشر دول عربية يرون مواقع التواصل الاجتماعي محلاً للثقة، ويفضلونها كمصدر لأي معلومات عند ورود أخبار عاجلة. وموقع "فيسبوك" هو المنصة الأكثر استخداماً عربياً بعدد مستخدمين يبلغ حوالي 164 مليون شخص في العام الماضي، ارتفاعاً من 56 مليون في العام 2013، أي أن الكثير من الدول يمكن أن تتحول إلى بيئة خصبة للتثوير ونشر الغضب في أي لحظة.
العالم العربي في معظمه يحتاج إلى حلول وسياسات علاجية عاجلة لمعالجة الأوضاع التنموية، فالسوس الذي ينخر في جسد الكثير من الدول العربية بسبب عوامل طائفية وأيديولوجية ومتاجرة بالدين وغير ذلك من فساد وسوء إدارة وتغييب للتنمية الحقيقية، يتطلب استعادة لدور الدولة الوطنية كي تقوم بواجباتها ودورها حيال مواطنيها.