تطرح الجولة الخليجية التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وشملت الكويت وقطر وسلطنة عمان ودولة الإمارات وسبقت هذه الجولة بأيام زيارة مهمة قام بها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى طهران، بعد إعادة فتح مقار البعثات الدبلوماسية الإيرانية بالمملكة خلال الأسبوع الأول من شهر يونيو الجاري، وترقب خطوة سعودية مماثلة في إيران بعد عيد الأضحى. تطرح هذه التحركات الخليجية المكثفة تساؤلات حول أبعادها ودلالاتها، وعوائدها الإستراتيجية بالنسبة لإيران.
في البداية يمكن القول بأن الدبلوماسية الإيرانية تتحرك بوتيرة متسارعة في ملف التقارب مع الجيران من دول مجلس التعاون، حيث يبدو واضحاً أن هناك نهج جديد تتبناه طهران حيال مسألة التعاون الإقليمي، وكيفية التعاطي مع التحديات بعيداً عن لغة التهديد والرسائل الملتبسة التي ظلت تطغى على السياسات الإيرانية طيلة السنوات الماضية.
التغير الذي طرأ على السياسات الإيرانية بدأ بالإنفراج النوعي الكبير في العلاقات مع المملكة العربية السعودية، وتؤكد الشواهد أن هذا التوجه سيستمر ويتعمق في ظل دعوات الزيارات التي تم تبادلها خلال اللقاءات الإيرانية ـ الخليجية الأخيرة، حيث تلقى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات ـ خلال استقبال سموه لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ـ دعوة رسمية لزيارة طهران، وقد وجه سموه دعوة مماثلة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الإمارات، كما حمل وزير الخارجية السعودي خلال زيارته إلى طهران دعوة للرئيس الإيراني لزيارة المملكة العربية السعودية ، حيث يتوقع أن يتم الترتيب لجولة خليجية يقوم بها إبراهيم رئيسي ليتوج بها سلسلة التحركات الإيرانية للتقارب مع دول الجوار.
التركيز الإيراني المكثف على التقارب مع دول مجلس التعاون عبر عنه وزير الخارجية حسين عبد اللهيان بالقول أن "استمرار تنمية العلاقات مع الجيران أحد المحاور الأساسية في عقيدة السياسة الخارجية للحكومة"، مشيراً إلى أهمية معالجة التحديات في ظل مشاركة جماعية لدول المنطقة، واللافت أن الإنفتاح الإيراني لا يقتصر على دول الجوار، بل يأتي في خضم محادثات غير مباشرة تجريها إيران مع الولايات المتحدة بوساطة عمانية، حيث تشير تقارير عدة إلى التوصل إلى صيغة تفاهم بين البلدين حول نقاط عدة منها البرنامج النووي والعقوبات الأمريكية ملف الأمريكيين المحتجزين لدى إيران. كما تشمل التحركات الإيرانية أيضاً أطرافاً أخرى مثل مصر، حيث يبدو أن هناك رسائل متبادلة بهذا الشأن البلدين. كما حدث إنفراج مماثل على صعيد العلاقات الإيرانية ـ الأوروبية إثر لقاء جمع في الدوحة بين منسق المفاوضات النووية في الاتحاد الأوروبي إنريكي مورا وكبير مفاوضي إيران علي باقري كني، أضف إلى ماسبق أن تحركات وزير الخارجية الإيراني جاءت عقب جولة مهمة قام بها الرئيس الإيراني في أمريكا اللاتينية منتصف شهر يونيو الجاري، وشملت دول التحالف البوليفاري: فنزويلا وكوبا ونيكارجوا.
مجمل هذه التطورات لا تنفصل عن بعضها، ولا تمضي في مسارات متباعدة، بل لها صلات ببعضها البعض؛ فعلى سبيل المثال يصعب فهم التقارب بين دول مجلس التعاون وإيران بمعزل عن محاولات إدارة الرئيس بايدن الحثيثة للتوصل إلى تفاهمات مع إيران، كما يصعب كذلك فهم تغير النهج الإيراني حيال دول الجوار بمعزل عن رغبة طهران في تحييد انعكاسات التطبيع بين الدول الخليجية وإسرائيل، ولاسيما في ظل وجود محاولات أمريكية ـ إسرائيلية متواصلة لتتويج اتفاقات التطبيع الموقعة بين إسرائيل والعديد من الدول الخليجية والعربية باتفاق مماثل مع المملكة العربية السعودية.
بلاشك أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط يمثل تغييرات جيو سياسية عميقة، وهذه التغييرات لم تتوقف بعد ويتوقع لها أن تستمر في ظل الحراك المستمر الحاصل في شبكة العلاقات الإقليمية بناء على حسابات وتقديرات مغايرة للمصالح الإستراتيجية للأطراف الاقليمية المختلفة، فإيران تتحرك ـ على سبيل المثال ـ مدفوعة بحسابات التطبيع الاسرائيلي مع الدول الخليجية والعربية، فضلاً عن التغيرات الإيجابية الحاصلة في العلاقات التركية ـ الخليجية والعربية، وتركيا قوة إقليمية موازنة للنفوذ الإيراني، ولا يمكن للإيرانيين تجاهل تحركاتها الاقليمية وتأثيراتها على الدور والنفوذ والمصالح الإيرانية.
وفوق ماسبق، تسعى إيران إلى كسب مزيد من النفوذ والثقل الإقليمي في إطار صراع النفوذ الدائر عالمياً من أجل تشكيل نظام عالمي جديد، وبالتالي فإن إيران تسعى إلى تعزيز دورها وتوسيع هوامش تحركاتها إقليمياً من أجل ترجمة ذلك إلى مصالح إستراتيجية في إطار عملية ترسيم القواعد وتوزيع الأدوار دولياً.
والرابط بين مجمل هذه التحركات هو التوجه الإقليمي الجماعي نحو انهاء التوترات وتغليب المصالح المشتركة والسعي نحو التركيز على التنمية والتعاون الاقتصادي والاستثماري، ولكن هذه النوايا المعلنة لم يتم اختبارها بعد لدى جميع الأطراف، لاسيما أن المعضلة دائماً لم تكن في توافر الرغبة في التعاون الاقتصادي من عدمه، بل في السياسات الأمنية والعسكرية التي تنتهجها قوى إقليمية مثل إيران وتركيا، بدليل أن التعاون الاقتصادي لم ينقطع بين إيران ودول مثل الإمارات حتى في أشد فترات التوتر في علاقات طهران بالاقليم، ولكن ظل التعاون في صورته الكلية غائباً على الصعيد الرسمي بسبب السياسات الإيرانية المعروفة للجميع.
المحصلة هنا أن إيران قد نجحت في العودة إلى ساحة سباق التقارب الدبلوماسي، وحققت جانباً كبيراً من أهدافها ولو على المستوى الدبلوماسي البروتوكولي/ الإجرائي، ولكن هناك اختبارات متوقعة لهذه السياسات الإيرانية منها مثلاً التوجهات الإيرانية في ملفات خلافية مثل اليمن ولبنان وسوريا، وكذلك موقف إيران في حال التوصل إلى صيغة سلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ومدى تفهم إيران لاستمرار التعاون الثنائي بين بعض دول مجلس التعاون وإسرائيل في ضوء اتفاقات "إبراهام"، لاسيما أن طهران، أو بعض القيادات الإيرانية المتشددة على الأقل ـ تنظر للتقارب مع دول الجوار الخليجية باعتباره بديلاً لتعاون هذه الدول مع إسرائيل.