زرت المملكة المغربية الشقيقة كثيراً طيلة السنوات الماضية، أثناء فترة دراستى للدكتوراه، وقبلها وبعدها، وأشعر دائما بالحنين لزيارتها لارتباطي بشعبها، وحرصي على التزود مما توفره هذه الأرض الطيبة من قيم الأصالة والعراقة وعبق التاريخ والتراث الإنساني والإسلامي الأصيل.
ولكن زيارتي للمملكة هذا الشهر لها سمات مميزة، أولها أنني أشارك في مؤتمر علمي ضخم، وثانيها توقيت الزيارة التي تأتي في شهر نوفمبر، الذي اعتبره، شخصياً، شهر الإرادة والعزيمة الوطنية بالنسبة للأشقاء المغاربة، حيث الاحتفال بذكرى مناسبتين وطنيتين أدرك أيضاً عمق مغزاهما الوطني والتاريخي في الذاكرة الشعبية والوعي الجمعي المغربي، وهما ذكرى المسيرة الخضراء ويوم استقلال المملكة، وهما محطتان بارزتان لا يمكن لأي باحث للتاريخ المغربي أن يتجاوزهما أو أن يمر مرور الكرام عليهما، لما لهما من آثار وتجليات في الحاضر المغربي المعاصر، ولما يعكسانه من دروس الماضي المغربي العريق.
المسيرة الخضراء تحمل روح المغاربة الوثابة وتعكس مقدرتهم على الاصطفاف الوطني والتوحد وراء قيادتهم الحكيمة، ولها من المعاني والدلائل ما تحتاجه الأجيال الناشئة، التي تكاد مفاهيم ومصطلحات الوطنية والولاء والانتماء أن تتفلت منها في زحام العولمة وضغوط تطبيقاتها وتجلياتها ووسط ضجيجها.
لم تكن المسيرة الخضراء تظاهرة ضخمة عادية، وليست فقط تجمعاً شعبياً هائلاً للدفاع عن الأرض والوطن والسيادة، ولكنها محطة فارقة في التاريخ المغربي، فهي كانت بمنزلة منعطف نوعي لقياس مؤشر العلاقة بين الشعب وقيادته، وجاءت النتائج على أروع ما يكون، لتجسد الالتفاف الشعبي الهائل حول قيادة المغفور له بإذن الله تعالى الحسن الثاني طيب الله ثراه، فقد كانت الالتفاف الشعبي حول ندائه والاستجابة السريعة الفاعلة له بمثابة تصويت بالثقة في رشادة القرار وعمق دوافعه الرامية إلى الحفاظ على الأرض والسيادة والوطن في مواجهة المحتل الغاصب وقتذاك.
المسيرة الخضراء أيضاً كانت درساً في توظيف الإرادات الوطنية والقوة الناعمة للدول والشعوب في انتزاع الحقوق والحفاظ على المصالح الاستراتيجية للشعوب، فلم تكن مظاهرات هوجاء ولا اندفاعات طائشة، ولا املاءات خارجية، بل جموع هائلة خرجت وفق نظام دقيق تحمل القرآن الكريم والأعلام المغربية في مسيرة سلمية وحضارية رائعة تليق بتاريخ هذا الشعب العظيم وحضارته الضاربة في عمق التاريخ، فكانت مسيرة خضراء بالفعل تترجم رشادة القرار الاستراتيجي وحكمة القيادة ووعي الشعب.
كانت المسيرة درساً في الوطنية والنظام والولاء والوعي الاستراتيجي الذي غلف تصرفات الحشود الهائلة التي شاركت في هذا الحدث التاريخي، حيث يقول المغفور له الحسن الثاني عن ذلك "لم يكن إرسال المغاربة في المسيرة الخضراء بالأمر الأكثر صعوبة، بل كان الأكثر من ذلك هو التأكيد من أنهم سيعودون بنظام وانتظام عندما يتلقون الأمر بذلك، وهم مقتنعون بأن النصر كان حليفهم، وذلك ما حصل بالفعل"، وهذا هو دليل الوعي الحضاري للشعوب، التي تشبعت بموروث القيم وتتحرك وفق موروث عريق يملي عليها الالتزام والاصطفاف وقت الشدائد والمحن.
أما ذكرى يوم الاستقلال فتلك محطة استثنائية لها وقع خاص في نفوس الأشقاء المغاربة، شأنها شأن ذكريات الاستقلال في نفوس الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار، حيث ضرب الشعب المغربي خلال تلك الفترات أروع الأمثلة في التلاحم والوحدة والتماسك الوطني، ووقف ضد كل مخططات تقسيمه والنيل من عزيمته ووحدته الوطنية، ثم ظهر المعدن الأصيل للشعب ووقوفه خلف قيادته ورمزه التاريخي الملك محمد الخامس، فكانت ثورة غير مسبوقة هي ثورة الملك والشعب، حيث رضخ المستعمرون لتلك الإرادة الوطنية الجارفة، التي لقنت الاحتلال درساً بليغاً، حصل بعده المغرب على استقلاله.
الاستقلال ورحيل القوى المحتلة ليس نهاية رحلة الشعوب وكفاحها مع التحديات، بل يمثل انتهاء مرحلة يعقبه غالباً تحد آخر وأكثر ديمومة وصعوبة، وهو تحدي التنموية والبناء والخروج من قيود الماضي، التي ربطت المستعمرات بمستعمريها، ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، من هنا تبدو أهمية رحلة استقلال الإرادة، وهو الاستقلال الأهم الذي يميز مسيرات الدول والأمم والشعوب.
استقلت الإرادة المغربية منذ عام 1955، بعد رحلة كفاح تاريخية قدم المغاربة خلالها الكثير من التضحيات والبطولات والدروس في الوطنية والفداء، وحيث باتت العلاقة بين الملك وشعبه رمزاً للتلاحم الوطني التاريخي في هذا البلد العريق.
الاحتفال بأيام الاستقلال محطة زمنية مهمة تقف عندها الشعوب للتزود بشحنات جديدة من الطاقة الإيجابية الوطنية للإسهام في تطوير الواقع والاستعداد للمستقبل، وفي المملكة المغربية الشقيقة يوحي الواقع بالأمل في المستقبل، فقط تجاوزت المملكة عواصف واختبارات صعبة كثيرة، ونجحت بفضل تضافر إرادة شعبها وقيادتها، في الحفاظ على أمنها واستقرارها ساعية للمستقبل بخطى واثقة ومدروسة.
كل الأمنيات الطيبة للشعب المغربي الشقيق بغد أفضل يلبي طموحات وتطلعات هذا الشعب الأصيل