استحوذ موضوع الوثائق الأمريكية التي تم تسريبها على إهتمام كافة الدوائر السياسية في العالم خلال الفترة الماضية، فالمسألة تتصل بما يدور وراء كواليس صنع السياسات والقرارت في القوة صاحبة التأثير الإستراتيجي الأقوى عالمياً حتى الآن. هذا الموضوع يطرح تساؤلات عديدة أهمها ما يتعلق بكيفية تسريب وثائق سرية من داخل وزارة الدفاع الأمريكية، وهل تمت بالفعل من خلال الشاب الذي تم الكشف عن تورطه، أم من خلال حرب سيبرانية لا تريد المؤسسات الأمريكية الاعتراف بحدوثها؟
باعتقادي أن هذه المسألة لها أبعاد لم تتكشف حتى الآن وسيبقى جانب كبير منها داخل خزائن الأسرار الأمريكية التي تضم الكثير على هذا الصعيد، فليس من السهولة أن نصدق أن هذا الشاب الذي تم تصوير لحظات اعتقاله، هو من هدد علاقات واشنطن بالكثير من دول العالم من خلال تسريب وثائق على هذه الدرجة العالية من السرية والخطورة ونشرها في مواقع ألعاب فيديو ووسائل تواصل إجتماعي.
هناك سيناريوهات عدة لتفسير ما حدث بعضها يركز على أن المسألة تتعلق بعملية خداع استخباراتي دقيقة، من خلال تزييف هذه الوثائق لتحقيق أهداف مدروسة بدقة مثل تضليل أطراف أخرى مثل روسيا والصين في لعبة الأمم الصراعية الدائرة بقوة، وذلك في إطار حروب المعلومات المحتدمة بين هذه الأطراف. وهناك سيناريو يرى أن التسريب قد تم بشكل انتقائي لوثائق حقيقية مختارة ومحددة بدقة، حتى وإن ظهر بعضها وكأنه يضر بالمصالح الإستراتيجية الأمريكية، وذلك لتحقيق أهداف معينة مثل الضغط على دول أو أطراف دولية لانتزاع تنازلات أو لتحقيق مصالح أمريكية، أو الوقيعة بين بعض الدول والأطراف الدولية، أو منع دول من القيام بخطوات أو إجراءات معينة خشية إثارة المزيد من الغضب الأمريكي المزعوم، وذلك لتحييد أدوار هذه الدول في إطار الصراع الإستراتيجي مع الصين وروسيا، وترميم آثار التراجع الحاصل في الدور والتأثير الأمريكي عالمياً.
والسيناريو الثالث ينطلق من وجود عملية إختراق معلوماتي حقيقية قد حدثت لمؤسسة عسكرية/ إستراتيجية ضخمة بحجم "البنتاجون"، وهنا نكون بصدد كارثة أمنية/ معلوماتية كبرى للدولة الأقوى في العالم. والمشكلة هنا أن هذا السيناريو ـ لو صح ـ فلن يتم الاعتراف به أو على الأقل الكشف عن أبعاده الحقيقية والأطراف المتورطة فيه من الداخل والخارج.
ندرك جميعاً أن التحليلات جميعها تميل إلى تغليب سيناريو الخداع الاستخباراتي سواء بحكم طغيان نظرية "المؤامرة" على الكثيرين، أو بحكم "السوابق" العديدة على هذا الصعيد، ولأن هناك "كابح" لفكرة إختراق أقوى مؤسسة عسكرية في العالم، ولكن الأمر الملاحظ للغاية، برأيي، أن معظم المنشور من هذه الوثائق لا يرتقي إلى درجة حساسية عالية للغاية، بحيث تضر بالعلاقات الأمريكية مع دول كبرى، أو تضع السياسة الخارجية الأمريكية في مأزق حقيقي، وهذا أمر له دلالاته، خصوصاً في ظل ما يقال بشأن الشاب الذي قام بتسريب هذه الوثائق ونشرها داخل مجموعة خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا جدوى من نشر بعض هذه الوثائق حتى ولو من باب اثبات القدرة على امتلاك وثائق أو معلومات مهمة!
المتحدث باسم "البنتاجون" رفض الاجابة عندما سئل عما إذا كان يعتقد أن الوثائق حقيقية، وقال إن بعضها "يبدو أنه عدل"، وأشار إلى أن شكل الوثائق مشابه لتلك المستخدمة لتقديم تحديثات يومية لكبار القادة بشأن أوكرانيا والعمليات العسكرية الروسية، وبموازاة ذلك نقلت تقارير إعلامية عن مسؤولين بالبنتاجون تأكيدهم بأن الوثائق حقيقية. وفي جميع الأحوال فإن هناك حرص واضح للغاية على أن بعض الوثائق قد تم تعديلها أو تحريفها، ما يعني بالتبعية تعمد إثارة الخلط الشديد بين ماهو حقيقي وماهو معدل، وذلك بهدف تعميق الإرباك لدى من يريد الإستفادة من محتوى الوثائق، وقد يكون ذلك أيضاً بهدف التضليل أو بهدف الحد من موثوقية هذه الوثائق ودفع الآخرين لتجاهلها إجمالاً.
التركيز الكبير للوثائق المسربة على تصوير مايجري في أوكرانيا ربما يكون له دلالة معينة، لاسيما فيما يتعلق بدور دول أخرى في تقديم التدريب للقوات الأوكرانية، والخسائر التي تكبدها طرفا الحرب ونقاط الضعف العسكرية، ونقاط قوتهما النسبية المتوقعة عندما تشن أوكرانيا هجوم الربيع. الوثائق تشير إلى أن خسائر روسيا البشرية تفوق نظيرتها الأوكرانية، وقد تصل إلى ضعفها تقريباً وهذا بحد ذاته يمثل إحراجاً كبيراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورغم أن الأرقام التي تداولتها الوثائق المسربة تقارب الأرقام المعلنة، فإن ظروف التسريب والاهتمام الإعلامي الذي رافقه يضيف عليها قدراً من المصداقية والجاذبية.
ثمة نقطة أخرى أيضاً تتعلق بأن الكشف عن الاستعدادات الأوكرانية لهجوم الربيع المرتقب لا تضيف الكثير من الناحية الفعلية سواء لأن روسيا يفترض أن تجمع ماتحتاج من معلومات، أو لأنه لا يمكن الإعتماد على معلومات ترد بهذا الشكل المحاط بعلامات الاستفهام. واللافت أن الكثير من الوثائق تركز على كشف جوانب الضعف في الدفاعات الأوكرانية، ما دفع بعض المشرعين الأمريكيين للتحذير من استغلال روسيا لهذه المعلومات، والمطالبة بتعويض أوكرانيا عن "فضح" هذا القصور والاسراع بتزويدها بالعتاد اللازم.
مسألة تسريب وثائق سرية من مؤسسة أمريكية ما ليست طارئة في التاريخ الأمريكي، فهناك العديد من السوابق التاريخية لذلك أشهرها فضيحة "ووتر غيت"، التي انتهت باستقالة نيكسون، ووثاق سجن "أبوغريب" العراقي التي فجّرها سيمور هيرش في عام 2004، وتسريبات "ويكليكس" ومعظمها لم يتم الكشف عن أبعاده وخلفياته بشكل كامل حتى الآن.