من الصعب على أي مراقب القول بامكانية ضمان الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط أو غيره من مناطق العالم ما لم تتوافر الأسس الحقيقة الداعمة لذلك، وفي مقدمتها وضوح الرؤية المستقبلية وبناء الأمل لدى الشعوب، وهذا الأمر ينطبق بالدرجة الأولى على ماتشهده منطقتنا من صراعات وفوضى لأسباب معروفة للجميع. نعم، الكل يدفع فاتورة باهظة للصمت حيال تنامي دور مشعلي النار في بؤر مختلفة من الاقليم، وفي مقدمة المسؤولين عن ذلك تأتي الولايات المتحدة التي فشلت في قراءة مآلات أفعالها وسياستها التي غيبت عمداً احتمالات تفاقم خطر الميلشيات والأذرع الإرهابية الإيرانية في مقابل محاولات لم تثمر عن شىء لاسترضاء طهران وكسب الوقت مقابل صفقة "النووي" التي ولدت ميتة أكلينيكياً منذ عام 2015.
الحاصل الآن أن الشرق الأوسط بات مسرحاً لنشر الفوضى عالمياً في ظل انهيار الدولة الوطنية في مناطق عدة، وتصاعد دور الميلشيات التي تنازع الدول أدوارها ونفوذها بل وتهدد الأمن والاستقرار العالميين وتتسبب في وقف أحد اهم شرايين التجارة البحرية الدولية في البحر الأحمر، وتحولت هذه الميلشيات المارقة إلى ما يشبه "المدرسة" لتلقين فنون التمرد ومناوئة القانون ومناطحة الجيوش والدول ومنازعتها على النفوذ والقوة حتى بات التخلص من هيمنة هذه الجماعات والتنظيمات كابوساً يقض مضاجع الجميع في منطقتنا.
تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى أحد أخطر بؤر الفوضى في العالم، والشواهد تقول إن المستقبل المنظور يحمل المزيد في هذا الاتجاه في ظل عوامل الاحتقان والتوتر والصراعات بالوكالة التي تدفع أثمانها دولاً وشعوب أخرى، ويزداد هذا الخطر في ظل حالة الانقسام الدولي غير المسبوقة، وصعوبة بناء موقف دولي جامع يتصدى لهذا الكم الهائل من العنف والفوضى وغياب الاستقرار.
الأزمة الحقيقية في الشرق الأوسط هي أن المنطقة تحولت إلى ساحة صراع كبرى لتصفية الحسابات، حيث تختلط الأوراق، وحيث يتراجع نفوذ الولايات المتحدة، القوة الأكبر عالمياً، بدرجة متسارعة تجعل منها هدفاً مباشراً لبعض الأطراف الاقليمية والدولية، التي تسعى لحسم الصراع الاستراتيجي مع واشنطن في أحد أهم مناطق نفوذها، وفي خضم بيئة اقليمية مليئة بعوامل الانفجار.
وما يجب على الجميع في منطقتنا والعالم الانتباه إليه هو أن ما يحدث في الوقت الراهن يضر بمصالح جميع دول المنطقة وشعوبها، بما في ذلك إسرائيل، والتي عليها واجب أن تراعي مواقف وظروف ومصالح أطراف إقليمية تتشارك معها الرغبة في تحقيق الأمن والاستقرار، حتى لا يتم خلق ظروفاً مثالية للقوى التي استهدفت نشر الفوضى وتقويض فرص السلام.
وسط أجواء الفرقة والانقسام الدولي هذه، والغياب التام للمؤسسات الدولية وفشلها في الاضطلاع بدورها، لا يمكن التكهن بأي أفق لتهدئة الأجواء بمعزل عن إرادة الأطراف الاقليمية التي يفترض أن تمسك بزمام المبادرة وتتشارك الرؤى مع بعضها البعض من أجل بناء مقاربة واقعية للخروج من هذا المأزق غير المسبوق، حيث لا غنى ولا بديل عن الحوار والبناء على المشتركات وتفويت الفرصة على المتآمرين الباحثين عن توسيع نطاق العنف والحروب وسفك الدماء.
الشواهد تقول إن الأفق الضبابي الذي يخيم على الشرق الأوسط ينذر بالخطر، وينطوي على احتمالات كبيرة لولادة موجة جديدة من التطرف والتشدد والارهاب، قد تكون هذه المرة أشد دموية مما سبق، سواء في ظل ارتفاع منسوب الغضب والتحريض بشكل غير مسبوق، أو لأن التجربة التاريخية تفيد بتناسخ أجيال الارهاب جيلاً بعد جيل وتنافسها في التشدد والتطرف، والخطر هنا لا يقتصر على هذه الدولة أو تلك، فالواقع الراهن وكذلك التجارب تشير إلى ان الجميع يدفع ضريبة تفشي داء الارهاب، وفي تهديد حركة التجارة البحرية بالبحر الأحمر، واستعراضات الصواريخ والمسيرّات التي تزخر بها فضاءات الشرق الأوسط، مثالاً لما يمكن أن يكون عليه حال الخطر الارهابي.
ما يحدث في الحرب الدائرة في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" قد لا يكون الخطر الأكبر في الشرق الأوسط، فالأمور في المنطقة قد وصلت إلى مستوى يجعل من أي خطأ أو سوء تقدير يقع فيه أي طرف مقدمة لحريق اقليمي واسع وحرب كبرى لا يعلم أحد مداهاً ويصعب على أي مراقب تقدير عواقبها أو تحديد أطرافها، والمأزق الأخطر أن القوى المتآمرة تكاد أن تنجح في فرض أجندتها ولاسيما فيما يتصل بالوقيعة بين دول المنطقة وبعضها البعض، وتقويض أجواء السلام وعودة التوترات وتوسيع مربع الحدود الملتهبة وانهاء حالة "السلام البارد" واستعادة أجواء عدم الثقة وقاموس الصراع والمواجهات وتدمير استثمار سنوات وعقود طويلة سعت فيها دول المنطقة للبحث عن التنمية وتحقيق مستقبل أفضل لشعوبها.