ثلاثة شهور مرت على الأزمة القطرية ولا تزال تفاعلاتها مستمرة، وأفق الحل غير واضحة رغم تعدد الجهود المبذولة على نفس المستوى للوصول لحل يرضي جميع الأطراف. ومع استمرار تعنت الدوحة في الاستجابة لمطالب الدول المقاطعة، تكثر التساؤلات حول المسارات القادمة لهذه الأزمة وتداعياتها على ملفات المنطقة الساخنة بأكملها، وعلى مستقبل الدوحة نفسها، لاسيما بعد أن خلعت عباءة العروبة وارتمت في أحضان من يتربص بنا.
حاورت "الدستور" الباحث الإمارتي والكاتب والخبير الاستراتيجي الدكتور سالم الكتبي ليقودنا إلى استشراق ما قد يحدث إذا طالت هذه الأزمة، خاصة على ملفات الأمن القومي الخليجي والعربي.
وإلى نص الحوار:
• برأيك، ماذا يحدث في حال استمر التصعيد في الأزمة القطرية مع الدول الأربع الداعية لمكافحة الارهاب؟ هل سيتم التفكير في حل عسكري؟
اعتقد أن الحل العسكري مستبعد في جميع الأحوال بغض النظر عن المدى الزمني للأزمة، وهذا هو الموقف الرسمي للدول الأربع الداعية لمكافحة الارهاب، والتي لا ترغب في الانجرار إلى مؤامرات قطر ومكائدها، ورهانها المؤكد على لعب دور "الضحية" وفكرة "المظلومية" كما يرسمها ويخطط لها قادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية.
ولكن الأزمة ربما تزداد تعقيدًا في حال واصلت القيادة القطرية استفزاز الدول الأربعة الداعية لمكافحة الارهاب كما فعلت حينما دعت إلى تدويل الحج، وتبنت المزاعم الايرانية الخاصة بتسيسس الحج ورددتها، وحاولت الادعاء في محافل دولية بأن المملكة العربية السعودية الشقيقة توظف شعائر الحج من أجل تحقيق مصالح سياسية!
وبشكل عام اعتقد أن التصعيد بأي شكل، سياسي أو عسكري، ليس في مصلحة قطر، التي أثق تمامًا أن الوقت ليس في مصلحتها وأن استمرار الأزمة لا يخدم مصالح الدولة القطرية على المدى القصير، لاسيما أنها تستعد لاستضافة بطولة كأس العالم 2022، الذي يعد من بين أهم الملفات القطرية في الوقت الراهن، وهو الملف الذي يحظى باهتمام استثنائي من القيادة القطرية، ويجذب الاستثمارات المحلية هناك بكثافة، ولكن الحقيقة أنه يواجه مصيرًا غامضاَ حتى الآن، والأمر لا يتعلق بالبنى التحتية والمنِشآت التي ستقام استعداداَ لاستضافة البطولة فقط، فهذه يمكن التغلب على عقبات المقاطعة، ولو بكثير من الخسائر الاقتصادية، ولكن المشكلة الحقيقية تتمثل في أمور أخرى مهمة منها موقف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) من استضافة قطر للبطولة، وهو موقف لم يتغير من الناحية الرسمية حتى الان، ولكن من الوارد جدًا أن يشهد تغيرًا في غير مصلحة قطر خلال السنوات القلائل التي تفصلنا عن البطولة، في ظل ما نشهده كل فترة من تسريب لأسرار حصول قطر على حق الاستضافة بطرق غير مشروعة، ما يضع "الفيفا" في موقف حرج وينال من سمعته دوليًا.
والأهم من ذلك أن بقاء حالة العزل القطرية يهدد بإفشال البطولة تنظيميًا من الأساس، نظرًا للصعوبات اللوجستية التي ستواجه التنظيم، لاسيما المجالات الجوية المغلقة في وجه المشجعين ورحلات الطيران، وضعف جاذبية المنشآت القطرية على الاستضافة بمفردها، فوجود البطولة بجانب مدن حيوية مثل دبي وأبوظبي وغيرهما يوفر لها جاذبية سياحية استثنائية، وزوال هذه الميزة يعني ضعف فرص الترويج السياحي والرياضي للبطولة، ناهيك عن أن منظمي بطولة كأس العالم ومسؤولي "الفيفا" وأعضاء الفرق الرياضية وغيرهم، سيواجهون صعوبات في السفر والقيود بسبب إغلاق المجال الجوي للبلدان الأربعة، ما يضاعف تكلفة السفر ويضع قطر أمام عب تحمل الفارق المادي للفرق والجمهور معًا وهو أمر يصعب تنفيذه من الناحية الواقعية، لاسيما في ضوء الحسابات التي تؤكد أن قطر ستخسر عشرات المليارات من الدولارات في هذه البطولة ولن تحقق أي أرباح مادية بالمرة.
في ضوء ما سبق، تبدو إطالة أمد الأزمة بمنزلة سيناريو رعب للقيادة القطرية، التي كانت تبحث عن انتصار سياسي سريع، ورفضت، حتى الآن، الانصياع لصوت الحكمة والعقل، وظلت، ولا تزال، تراهن على ضغوط خارجية على عواصم الدول الأربعة المقاطعة، ولكنها لا تدرك أن أقصى ما يمكن ان تفعله هذه الضغوط من الناحية العملية هو وقف التصعيد، أو اتخاذ إجراءات عقابية أخرى ضد قطر، ولكن هذا الوقف لا يعني انتهاء معاناة قطر، التي ظلت تحلم بانتزاع انتصار سياسي وهمي تقوم بترويجه إعلاميًا!!
• كيف تتوقعون أن تنتهي هذه الأزمة وما الحل لتلاشي هذه التحديات؟
لا أستطيع رسم سيناريوهات دقيقية لنهاية الأزمة مع قطر، ولكني أستطيع وضع محددات لهذه النهاية، لأن الأزمة ليست معقدة كما يتخيل البعض، بل هي بسيطة تماما، ولكن الإشكالية تكمن في عدم توافر الإرادة السياسية لدى القيادة القطرية لمواجهة شعبها بالأخطاء التي ارتكبتها والتراجع عنها، فأي تقدير استراتيجي موضوعي وفق حسابات الربح والخسارة الاستراتيجية للدوحة، سيقود القيادة القطرية إلى ضرورة التخلي عن العناد والمكابرة والمضي وراء المنطق والعقل والتوجه مباشرة إلى مفاتيح الحل لدى عواصم الدول الأربعة الداعية لمكافحة الارهاب، ولاسيما الرياض، حيث انعقد عزم الجميع في القمة (الإسلامية – الأمريكية) على التوحد من أجل مكافحة الارهاب، وحيث عزمت قطر على الخروج من حالة الاصطفاف واختارت التغريد خارج السرب لأسباب ربما تتعلق بالتورط مع تنظيمات الارهاب بدرجة باتت القيادة القطرية تخشي افتضاح أمرها وكشف أسرارها إذا تخلت عن هذه الجماعات الارهابية وقادتها سواء المقيمين منهم في الدوحة أو خارجها.
وفي مجمل الأحوال فإنني أتوقع ان تنتهي الأزمة بانهاء تمويل الارهاب واستئصال جذور حاضنته القطرية، حيث تصر الدول الأربعة تمامًا على موقفها، ويصعب تخيل انتصار الإرادة القطرية على إرادات دول أربع تمثل مركز ثقل لا يستهان به في المنطقة العربية والخليجية، فنحن نتحدث عن السعودية ومصر وكلتاهما مركز ثقل القرار العربي، إضافة إلى دولة الامارات بما تمثله في مكانة دولية مرموقة وثقل مركزي اقليمي، وكذلك الحال بالنسبة لمملكة البحرين، التي يصعب تجاوزها ضمن حسابات الأمن الوطني الخليجي.
أما مسألة الحد من التحديات التي تواجه الأمن القومي الخليجي والعربي، فلا اعتقد أن هناك سبيل للقضاء التام على التحديات الاستراتيجية، فنحن نعيش عصر التهديدات والتحديات الاستراتيجية، ومصادر الخطر والتهديد باتت متعددة، مع اختلاف المسميات وجغرافيا هذه المصادر وحساباتها الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ومن الأجدى التركيز في تحصين الأمن القومي العربي والخليجي وتزويده بكل مقومات المنعة والحصانة والهيبة بدلًا من التفرغ لانتظار التهديدات والعمل على مواجهتها.
• يرى محللون أن الأزمة مع قطر إذا طالت قد تفرض واقعًا إقليميا ودوليًا جديدا. في رأيكم في مصادر القلق والتهديد الاستراتيجي المحتملة في حال حدوث هذا السيناريو، وهل تتمثل هذه المصادر في إيران أم تركيا أم روسيا؟
اتفق مع نصف الفكرة الواردة في سؤالك، والمتعلق بالواقع الاستراتيجي الجديد ولكني اختلف مع من يقول أن هذا الواقع سينشأ في حال إطالة أمد الأزمة، فهذا الواقع قد ولد بالفعل واقعيًا حين ظهرت للدول الأربعة الداعية لمكافحة الارهاب براهين ودلائل الخيانة القطرية، وحجم التورط القطري في تمويل الارهاب الذي تعانيه بعض هذه الدول بشدة، وفي مقدمتها الشقيقة مصر، كما ولد هذا الواقع حين اكتشفنا في دولة الامارات تورط القيادة القطرية في تسريب معلومات بالغة عسكرية بالغة الحساسية لجماعة "الحوثي" في اليمن حول أماكن تمركز القوات الاماراتية المشاركة ضمن قوات التحالف العربي للدفاع عن الشرعية الدستورية في اليمن.
وتسببت هذه الخيانة القطرية في استشهاد العديد من الجنود الاماراتيين لتبقى دمائهم الطاهرة خير شاهد على فصول الخيانة والغدر القطري في اليمن، كما ولد هذا الواقع الاستراتيجي حين بدا للجميع حجم العلاقات التي تربط بين قطر وملالي إيران رغم ما يمثلونه من تهديد بالغ لأمن الدول العربية والخليجية، ورغم أطماعهم الظاهرة في دول عربية عدة.
ما أريد قوله في هذه الجزئية أن فصول الخيانة القطرية قد أفرزت واقعًا استراتيجيًا جديدًا يتمثل في خضوع قطر للاملاءات الايرانية والتركية وانسلاخها من الحاضنة الاستراتيجية الطبيعية للأمن الوطني القطري، متمثلة في دول مجلس التعاون، فالاصطفاف القطري إلى جانب تركيا وإيران يعني بالفعل واقعًا استراتيجيًا جديدًا بغض النظر عن ضعف تأثير هذا الواقع في معادلة الأمن الخليجي، التي لا تتأثر بانسلاخ قطر أو انضمامها، فقطر في كل الأحوال لم تكن تمثل رقمًا صعبًا من الناحية العسكرية والاستراتيجية، وبالتالي فإن إطالة أمد الأزمة لا يؤثر في هذا الواقع، وإن كان يعني تلاشي فرص عودة قطر إلى وضعيتها الطبيعية في ظل القيادة السياسية الحالية، التي تسببت في إحداث هذا الشرخ العميق بين الشعب القطري وبقية الشعوب الخليجية والعربية.
أما بالنسبة للجزئية الخاصة بمصادر التهديد المحتملة للأمن القومي الخليجي في ظل هذا الواقع الاستراتيجي، فإنني أؤكد أن إيران هي مصدر الخطر والتهديد الرئيسي لدول الخليج العربية، بما فيها قطر، فأطماع إيران واضحة للعيان، ويكفي الاشارة إلى أن قد تفاخرت علنًا منذ نحو عامين باحتلال أربعة عواصم عربية بغداد ودمشق وبيروت، وزعمت أنها في الطريق لاحتلال العاصمة العربية الخامسة، وهذا الكلام ليس ادعاء على إيران ولا تقولًا عليها، بل تصريحات موثقة لمسؤولين سابقين وأعمدة النظام الايراني، منهم حيد مصلحي وهو وزير سابق للاستخبارات في حكومة الرئيس السابق أحمد نجاد، الذي أعلن أن "الثورة الايرانية لا تعرف الحدود وهي لكل الشيعة" في استدعاء بغيض لمبدأ "تصدير الثورة" الذي رفعته إيران عقب ثورة الخميني عام 1979، وليؤكد فشل كل التحليلات القائلة بأن إيران قد طوت حقبة "الثورة" وانتقلت إلى حقبة "الدولة"، وهذه الادعاءات كررها أيضًا الجنرال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري الايراني، الذي تباهي بأن الثورة الايرانية قد "تمددت بسرعة خارج الحدود لتشمل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن وأفغانستان"، في ما قال علي يونسي مستشار الرئيس الايراني السابق لشؤون الأقليات أن العراق بات "عاصمة لإمبراطورية إيران الجديدة"!! فيما ذهب نائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قائاني، إلى الزعم بأن "إيران مستمرة بفتح بلدان المنطقة وإن الجمهورية الإسلامية بدأت بسيطرتها على كل من أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين وإنها تتقدم اليوم في نفوذها في بقية بلدان المنطقة"!
لا اعتقد أن هناك حاجة لاستنباط الدلائل على مصادر الخطر والتهديد الاستراتيجي الايراني، الذي توقف إلى حد كبير بعد أن تصدت له دول التحالف العربي من خلال عملية "عاصفة الحزم" ضد عملاء النظام الايراني في اليمن من جماعة "الحوثي" وميلشيات المخلوع علي عبد الله صالح.
أما تركيا فلها طموحاتها واطماعها في استعادة المجد العثماني على حساب الدول العربية، خصوصًا بعد أن أخفقت خططها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما دفعها إلى التوجه شرقًا والبحث عن تحالفات ومجالات استراتيجية جديدة لاكتساب القوة والنفوذ، والإشكالية في الموقف التركي أنه ينطلق من نفس المخطط العثماني القائم على بث الفرقة والخلافات بين الدول العربية، ويعمل على تشتيتها وانهاء فكرة القومية العربية لمصلحة النفخ في الأيديولوجية الإخوانية التي يتنباها "حزب العدالة والتنمية" ويدافع عنها الرئيس أردوغان بشراسة من أجل تحقيق مصالح حلفائه من جماعة "الإخوان المسلمين"الارهابية، وهنا يكمن موضع التهديد التركي، كونه يتعارض مع أسس ومبادىء الأمن القومي العربي، وينطلق من أسس معادية لهذا الأمن.
أما روسيا فقوة دولية كبرى لها مصالحها في منطقة الخليج العربي، وتحاول بناء رؤية متوازنة قائمة على حسابات المصالح الاستراتيجية الروسية بعيدًا عن التحيزات الأيديولوجية والطائفية التي تتبنها إيران وتركيا، وبالتالي فهي لا تمثل مصدر تهديد للأمن الوطني لدول مجلس التعاون، بل هناك مصالح مشتركة وأسس للتفاهم والحوار بين العواصم الخليجية من ناحية وموسكو من ناحية ثانية.
• ما مستقبل مجلس التعاون الخليجي في ضوء تطورات الأزمة مع قطر؟
اعتقد أن طرح هذا السؤال سابق لأوانه لأن المجلس قد مر بأزمات عدة سابقة وخرج منها أقوى مما سبق. صحيح أن الأزمة الراهنة مع قطر غير مسبوقة في تطوراتها وتفاعلاتها، ولا يمكن التهوين من تأثيراتها الرسمية والشعبية على العلاقات بين الدوحة ودول مجلس التعاون، ولكنني على ثقة بأن سيناريو نهاية الأزمة هو الموجه الأساسي لدفة علاقات قطر المستقبلية ضمن منظومة مجلس التعاون، بمعنى أن تراجع قطر عن خطها السياسي المضاد لمصالح مجلس التعاون ودوله وشعوبه، كفيل بعودة العلاقات إلى طبيعتها، وبخلاف ذلك يبدو من الصعب طبيعة الحال القول بأن الأمور ستمضي على مايرام.
ولكن الحال أنه حتى هذه اللحظة: قطر عضو ضمن منظومة مجلس التعاون، حتى وإن كانت المنظومة الآن لا تمتلك آفاقًا واضحة لخطوتها المقبلة، بمعنى هل ستواصل بقطر أم من دونها، ولكن الثابت أن قطر لا يمكن والحال كذلك أن تبقي ضمن هذه المنظومة التي قامت على أسس ومبادىء تصب في مصلحة شعوب دول مجلس التعاون، وبالتالي يصعب توقع وجود دولة تعمل بشكل مضاد يجافي هذه المصالح بل يعمل بشكل تآمري ضدها!
دعونا لا نستبق الأحداث ولكن المأمول أن تتغلب الحكمة في الشعب القطري وأن يدرك حجم الجرم الذي ارتكتبه قيادته وأن يتخذ من الاجراءات ما يتيح له تصحيح المسار واستعادة الدولة القطرية من خاطفيها، تلك العصابة المحيطة بقصر الحكم الأميري ووقتذاك سيكون مقعد قطر على حاله في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، علمًا بأن مستقبل المجلس كمنظمة وحدوية اقليمية ناجحة لا يرتبط بوجود قطر من عدمه، صحيح أنه سيتأثر في حال اقدامها على الانسحاب أو تجميد العضوية، ولكنه لن يموت بطبيعة الحال، فالاتحاد الأوروبي لم ينتهي بخروج بريطانيا، وهي دولة صاحبة مكانة استراتيجية واقتصادية تفوق بمراحل مكانة قطر في مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي فالمنظومات القوية ترتكز على أسس تعاون قوية يصعب أن تنال منها ظروف طارئة نتمنى في كل الأحوال ألا نصل إليها مطلقًا.
• كيف قرأت الموقف الأمريكى الحالى تجاه إيران، وتجاهله للتنافس بين تركيا وإيران على مستوى المنطقة في ظل هذه الأزمة؟
الولايات المتحدة الأمريكية قوة دولية عظمي مهيمنة على مفاصل النظام العالمي القائم، ولها حسابات مصالح استراتيجية ربما تختلف في منطلقاتها وحساباتها عما نراه في منطقتنا العربية، وقد اوضحت إدارة الرئيس ترامب موقفها الأساسي بدعم موقف الدول الداعية لمكافحة الارهاب وكذلك بالنسبة للتصدي للنفوذ الايراني في المنطقة، وبالتالي فان موقف الإدارة الأمريكية الحالي أفضل بمراحل بالنسبة للدول العربية مقارنة بموقف إدارة الرئيس السابق باراك اوباما، ولكن البعض في منطقتنا ينتظر من الولايات المتحدة الاصطفاف تمامًا وراء المصالح العربية، وهذا الأمر ليس منطقيًا ولا يندرج ضمن حسابات السياسة، فكل دولة لها مصالحها، فمابالنا والأمر يتعلق بالقوة العظمى الوحيدة في العالم! البعض يقرأ أيضًا موقف الولايات المتحدة تجاه الأزمة مع قطر بشكل خاطىء، حيث كان يتوقع أن تقوم الولايات المتحد بحصار قطر أو نقل قاعدة "العديد" الأمريكية منها على الفور، وهذا ليس من طبائع الدول الكبرى، ولكن علينا أن نقرأ الموقف الأمريكي جيدًا فالولايات المتحدة ٌقد أصدرت إدانات دامغة على لسان الرئيس ترامب بحق التورط القطري في تمويل الارهاب، ولولا القناعة الأمريكية بتورط قطر ما بادرت واشنطن إلى توقيع اتفاقية امنية مشتركة تلجم دور قطر في تمويل الارهاب وتراقب أي أمول تخرج من قطر عن طريق وجود مسؤولين أمريكيين يراقبون قرارات النائب العام القطري.
ثم نجد أن قطر تتذرع بالسيادة الوطنية حين تتحدث عن الاجراءات التي تطالبها بها الدول الأربعة الداعية لمكافحة الارهاب! الولايات المتحدة إذا بادرت إلى اتخاذ الاجراءات الحمائية اللازمة لحماية الأمن القومي الأمريكي، أما نقل القاعدة العسكرية الأمريكية وغير ذلك فأنا ادعو من يتخيل ذلك إلى مراجعة آراء المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين في الجلسات النقاشية التي عقدت بواشنطن عقب اندلاع الأزمة مع قطر، والتي تمحور معظمها في أن الاستراتيجية الأمثل للضغط على قطر التلويح بورقة نقل القاعدة وليس نقلها بالفعل وتحميل الموازنة العسكرية الأمريكية الكثير من الأموال والنفقات، وأن الاستراتيجية يجب أن تكون اقامة مزيد من القواعد وليس نقل قاعدة من مكان إلى آخر! علينا أن نقرأ التفكير الاستراتيجي الأمريكي كي نقترب من الذهنية التي تصنع القرار الأمريكي، فواشنطن ليست عاصمة عربية تفكر بنفس طريقتنا، ولكن لها نهجها في إدارة الأزمات حتى وإن كانت مع دولة صغيرة مثل قطر.
هناك نقطة أيضًا تتعلق بموقف الولايات المتحدة تجاه إيران، وهو موقف ضاغط يصب في مصلحة دول مجلس التعاون، حيث يمضي البيت في ممارسة أقصى الضغوط على طهران كي تتخلي عن برنامجها الصاروخي ليس موالاة لموقف دول مجلس التعاون ولكن لأن حسابات الأمن القومي الأمريكي تقول بأن إيران تحاول استنساخ النموذج الكوري الشمالي، الذي بات يمثل صداعًا مزمنًا يؤرق الأمن القومي الأمريكي، وبالتالي فالرئيس ترامب لن يسمح على الأرجح لإيران بالافلات ببرنامجها الصاروخي، بل يحاول إعادة التفاوض على الاتفاق النووي الموقع مع إيران، ولكن هذا الأمر سيظل قيد التقييم الرسمي الأمريكي بشان مدى التزام إيران بروح الاتفاق من ناحية، ومواقف بقية الشركاء الدوليين الموقعين على الاتفاق من ناحية ثانية. ثمة جزئية أخيرة تتعلق بموقف واشنطن في التنافس بين إيران وتركيا في منطقة الخليج العربي، فاعتقد إن الولايات المتحدة تراقب الموقف عن كثب، وترى أن الأمور لا تزال تحت السيطرة حتى وإن أقامت تركيا قاعدة عسكرية لها في قطر، فلا ننسى أن تركيا شريك أطلسي للولايات المتحدة، وعليها التزامات محددة في هذه الشراكة، وقد يكون لهذه القاعدة أهمية استراتيجية في ظروف معينة، ومن ثم فالحسابات الأمريكية ربما لا تنظر للحظة الراهنة بل تنظر إلى ما وراء الأحداث.
• الكثيرون يتحدثون أن هناك أطراف سعت ولازالت تسعى في خلق صورة مفادها أن هذه الأزمة خليجية فقط... رغم أن مصر أكثر الدول الأربعة التي تضررت فعليا من سياسية قطر المتطرفة.. ما رأيك؟
لا جدال في أن الشقيقة مصر من أكثر الدول تضررًا من سياسات قطر سواء في تمويل الارهاب، أو في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولكني لا اعتقد أن هناك من يؤمن بأن الأزمة مع قطر هي خليجية صرفة، فمصر طرف أصيل في بلورة استراتيجية متكاملة للتعامل مع الوضع القطري، والحد من خطر التوجهات القطرية على الأمن القومي العربي والخليجي. وهناك من يسعى إلى الوقيعة بين مصر والدول الثلاث الخليجية في مايخص موضوع قطر، ولكن هناك وعي كبير وتفاهم قوي بين العواصم الأربعة ولا مجال للوقيعة عبر اثارة الشائعات والاقاويل ونشر الاكاذيب في هذا الشأن.
• التسهيلات التي قدمتها السعودية لحجاج قطر تسببت في جدل كبير على مواقع السوشيال ميديا.. في رأيك ما دلالة هذه الخطوة خاصة وأن الكثير رآها ورقة ضغط جديدة ضد الدوحة قد تكون الأخطر على القيادة القطرية الحالية؟
هي بالفعل من اكثر التحركات ذكاء في التعامل مع مناورات قطر ومؤامراتها، فرغم أن جهود الوساطة القطرية التي قام بها الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني قد وفرت فرصة ثمينة للمملكة العربية السعودية لإظهار الحقائق للشعوب والرأي العام العالمي، فإن هذه الجهود قد وضعت القيادة القطرية في حرج داخلي وخارجي بالغ، بل كشفت أكاذيب النظام بعد أن بادرت القيادة السعودية مشكورة بتقديم كل التسهيلات اللازمة لحجاج قطر، بل عرضت استضافتهم ونقلهم مجانًا، ماينفي أي شبهة لمزاعم الاستغلال السياسي التي كانت تروجها قطر اقليميًا ودوليًا. جهود الوساطة باغتت القيادة القطرية لدرجة أن الدوحة قد ظلت تبحث نحو 12 ساعة عن رد مناسب على الاعلان عن استقبال القيادة السعودية للشيخ عبد الله بن علي آل ثاني وقبولها وساطته في مسألة الحجاج القطريين، ثم خرجت قطر برد فعل باهت يعكس الفشل والخيبة حين اعربت عن تخوفها على أمن وسلامة الحجاج القطريين، ممن تخافون على امن الحجيج ومضيفهم خادم الحريم الشريفين قد وفر لهم كل سبل الراحة وأمر بتوفير غرفة عمليات على مدار الساعة للاستجابة لمطالبهم وتنفيذها تحت إشراف الوسيط القطري! إذا هو ليست ورقة ضغط مباشرة على قطر بل هي فرصة تعاملت معها السعودية بذكاء ومهارة سياسية نجحت من خلالهما في فضح أكاذيب النظام القطري أمام شعبه، وربما ينتج عن ذلك تغيرات جذرية في قطر بعد أن اكتشف الشعب القطري أن هناك من بين عائلة آل ثاني قادة قادرون على الامساك بدفة الحكم وتوجيه بوصلة السياسة القطرية إلى طريقها القويم.
• بالنسبة للملف السوري.. ماهو الموقف الاماراتي في هذا الملف.. ورؤيتك لمستقبل سوريا؟
الموقف الاماراتي في سوريا قائم على محددات عدة في مقدمتها ضرورة الحفاظ على وحدة التراب والأراضي السورية، والعمل على ذلك بشتى الطرق، ثانيها رفض وجود تنظيمات الارهاب وتمويلها ودعمها في سوريا، ثالثها ضرورة السعي بشكل عاجل لتخفيف معاناة اللاجئين والنازحين من أبناء الشعب السوري الشقيق. وبناء على هذه المعطيات فإن الامارات تبذل جهودها كافة من أجل العمل على تسوية الأزمة وانهاء الصراع في سوريا، وتشارك بشكل فاعل في مكافحة الارهاب هناك. أما رؤيتي لمستقبل سوريا فليس لي سوى أن اتمنى أن تعود سوريا منارة للثقافة والحضارة العربية، وأن تطوي صفحة القتل وسفك الدماء وأن نرى سوريا قريبًا خالية من الارهاب والارهابيين، وأن تعود رمزًا للعروبة كما عهدناها دائمًا.
* كيف تتصدى الدول العربية لأجندة ايران في العراق؟
الدول العربية، وتحديدًا السعودية ودولة الامارات قد بدأتا بالفعل استراتيجية طويلة الأمد لاستعادة العراق إلى حضانته الطبيعية العربية، وهذا جهد يحتاج إلى نفس طويل، لأن العرب غابوا طويلًا عن العراق وسمحوا لإيران بأن تتمدد طائفيًا ومذهبيًا في هذا البلد العربي العريق، واعتقد أن الخطوات السعودية والاماراتية الأخيرة بشأن استقبال السيد مقتدى الصدر زعمي التيار الصدري في الرياض وأبوظبي هي خطوة على الطريق الصحيح لبناء قناة حوار فاعلة مع التيار الوطني العروبي في العراق ونبذ الطائفية والمذهبية، التي كانت المدخل للتسلل الايراني إلى عراق مابعد صدام وحتى الآن.
• ما مصير الاتفاق النووي الموقع بين الغرب وإيران؟
اعتقد أن مصير الاتفاق النووي تحدده اعتبارات عدة في مقدمتها حسابات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستراتيجية في التعامل مع الملف الايراني، ثانيها موقف إيران نفسها سواء بإظهار البراجماتية التي اعتادها النظام الايراني في مواقف الضغط تفاديًا لصراع عسكري قد ينتهي بسقوط النظام الايراني ذاته، والأمر الثالث يتمثل في مواقف بقية الشركاء الدوليين، فمن الوارد أن يؤدي انسحاب فردي أمريكي من الاتفاق إلى خلافات بين واشنطن وشركائها الأوروبيين الذين يتطلعون إلى الفوز بنصيب كبير من "كعكة" الصفقات الايرانية من الغاز والنفط.
• كيف ترى مصير تنظيم داعش في المنطقة في ضوء المستجدات المتعلقة بمجابهته دوليا وعربيا؟
اعتقد وفقا للشواهد والمؤشرات القائمة أن تنظيم داعش قد انتهي "اكلينيكيًا" وما تبقى من فلول التنظيم في العراق وسوريا سوف يؤول إلى زوال في ظل استمرار الملاحقات الأمنية الحالية، ولكن سقوط وهم الخلافة لا يعني انتهاء الفكرة، أو زوال الخطر نهائيا، فأيديولوجيا التنظيم الارهابي لا تزال جذورها موجودة سواء بشكل مادي في الدول والمناطق التي يتواجد فيها التنظيم وعناصره، أو بشكل افتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام الجديد، الذي حقق فيه التنظيم اخترقات لا يمكن التقليل من خطرها وانتشارها. وبالتالي فإن القول بزوال التنظيم يعتبر مجازفة غير محسوبة، فالخطر لا يزال قائمًا بدليل الاعتداءات الارهابية المتوالية التي يتنباها التنظيم في عواصم غربية شتى يومًا بعد آخر، والتي تؤكد أن الارهاب الداعشي قد انتقل من استراتيجية الدولة إلى استراتيجية الاختفاء والتمويه والعمل تحت الأرض مجددًا، ومن ثم يعود الارهاب مجددًا إلى الكر والفر، حيث اعتدنا من هذه التنظيمات طيلة العقود الماضية أن تأتي في شكل موجات متتالية، ولكن الخطر أن كل موجة تأتي أخطر من سابقتها، وهنا يجب علينا الحذر في التعامل مع فكرة نهاية الارهاب سواء في العراق وسوريا أو غيرهما من الدول.
• ما تقييمك للتنسيق الامارتي المصري في الأزمة الليبية؟
لاشك أن التنسيق الاماراتي المصري في الملف الليبي وغيره من الملفات العربية بات صمام الأمان للأمن القومي العربي، ويعمل على أعلى درجة ويمتلك أقصى درجات الوعي الاستراتيجي في التعامل مع الأزمات التي يعانيها الأمن القومي العربي. واؤكد أن هذا التنسيق بات يمثل رهانًا قويًا لاستعادة الأمن والاستقرار في ليبيا، فليس هناك للدولتين مصلحة أكبر من استعادة اجواء الاستقرار في ليبيا وطرد الارهاب والارهابيين من هذا البلد العربي الشقيق.كتبت كثيرًا عن الإرهاب والتطرف الديني في المنطقة العربية والعالم... ما هى رؤيتك في مكافحة هذا الوباء في الوقت الحالي والمستقبل؟
تحليلي المتواضع أن هناك تنسيق وتعاون عالمي وعربي جيد على المستوى العسكري والأمني والمعلوماتي ولكن هناك حوانب قصور واضحة في التصدي للارهاب فكريًا وإعلاميًا، فهناك معارك ثانوية تدور وتصرف انظار المؤسسات الدينية المعنية عن دورها الرئيسي في مكافحة الارهاب، وهناك تصفيات حسابات فكرية تصب في مصلحة تنظيمات الارهاب، وبالتالي علينا أن نعيد التركيز على الهدف الأساسي الخاص بمكافحة الارهاب، وعلينا أن ننتبه إلى دور التعليم في مكافحة هذه الظاهرة، كما أن علينا أن نسهم بشكل جاد في تفعيل الحوار مع الغرب، من أجل بناء مشتركات تسهم في التصدي لخطر تنظيمات الارهاب من دون ان نغذي الاسلاموفوبيًا أو نقيم جدار برلين جديد بين الدين الاسلامي وبقية الحضارات والأديان.
• آخيرًا: بعين مواطن اماراتي....كيف ترى مصر حاليا تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي؟
لقد زرت الشقيقة مصر العديد من المرات في السنوات الأخيرة، وبحكم عملي كباحث، اقول بكل أمانة أن مصر تشهد تطورًا وتقدمًا ملموسًا في جميع المجالات، لاسيما على صعيد البنى التحتية، والاستعداد للمستقبل ومعالجات المشكلات المزمنة في الاقتصاد وغير ذلك، صحيح أن هناك بعض التأثيرات والمضاعفات الجانبية لهذه المعالجات، وهذا أمر وارد وحدث في جميع الدول التي شهدت إصلاحات اقتصادية هيكلية كالتي تشهدها مصر، ولكن الأمور في مجملها تمضي إلى الأفضل، وعلينا جميعًا ان نصبر ونتحمل قليلًا فالدواء المر هو السبيل الأوحد للعلاج، وطالما أن القيادة المصرية تدرك الأمور من حولها وتعمل جديًا على معالجة المضاعفات الاجتماعية للاصلاح الاقتصادي فإنني اعتقد أن الأمور تمضي إلى الأفضل في مصر، وفي خلال سنوات قلائل سنرى مصر قاطرة للتنمية في منطقتنا العربية، وستعود منارة للاشعاع الثقافي والحضاري كما كانت طيلة تاريخها. واعتقد ان الشعب المصري الشقيق بحكم وعيه التاريخي والحضاري يدرك مايحاك لبلده من مؤمرات ويساند قيادته في سعيها لانتشال هذا البلد العريق من ازمته، والغريب أننا نجد البسطاء في مصر هم من يقدمون كل الدعم للقيادة بفطرتهم البسيطة، في حين تسقط بعض النخب في فخ المزايدات والمصالح الضيقة التي غالبًا ما تكون على حساب مصلحة مصر وأمنها ومستقبل شعبها.